هذا المقال بقلم محمد محمود الإمام، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
يعتبر التكافل من أهم المبادئ السامية التي غرسها الإسلام في قلوب العرب، تعزز الروابط على مختلف المستويات الاجتماعية والجغرافية، والتي ساهم الحراك البشري المستمر على مدى العصور، سواء في شكل الهجرات المتوالية، جعل من المقبول الحديث عن أمة عربية يحق لها أن تنشد الوحدة بين دول تمارس سلطات سيادية داخل حدودها، وتكون مسئولة عن حماية أمنها الوطني. وعن تحمل مسئولية تنمية اقتصاداتها الوطنية وتعزيز علاقاتها البينية لتتخلص من قبضة الدول الاستعمارية، وجدت دعوة الوحدة العربية صدى لدى النظم التي توسمت فيها تعزيزا لتحررها السياسي ودعما لنهوضها الاقتصادي، بينما تعاملت معها بحذر دول لم تستكمل بعد السيطرة على مواردها وإعادة تنظيم بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، وأخرى قدرت أن الوحدة لن تساعدها على تحقيق ما يعوضها عما تفقده من إعادة رسم شبكة علاقاتها الدولية (على نحو ما بيناه في مقال 18/8 .)
وبينما يقتضي إجراء التكامل ترتيبات رسمية وعقد اتفاقيات تحدد دور كل من الأطراف المعنية في عملية بناء التكامل على مراحل متعاقبة، وكيفية نقل بعض السلطات من المستوى القطري إلى المستوى الجماعي، فإن التكافل يتخذ غالبا صيغة طوعية تتفق مع طبيعة الدواعي التي تستدعيه. ولا يترتب عليها تغيير في أوضاع الدول الأطراف بصورة دائمة، ولا تصطبغ بصبغة الإجبار أو الاستمرار.
ولو عدنا بالذاكرة إلى الفترة الأولى من استقلال أو نشأة دول عربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وجدنا نماذج عديدة ساهمت فيها مصر بعدة طرق. كانت مناسبة الحج تجعل المصريين يسعدون برؤية المحمل وهو يمر في الطرقات حاملا كسوة الكعبة الشريفة، إذ يعتبرونه رمزا لما تهفو إليه قلوبهم من أداء المناسك. وكانت البعثة الطبية المصرية تؤدي دورا هاما في تأمين سلامة الحجيج، دون أن يكون في ذلك تفاخر بين البلدين رمزا لما يربط بينهما من صلات وثيقة. وكانت الميزانية المصرية تتحمل نفقات هيئات تدريس، لنشر التعليم في دول شقيقة كليبيا، أو للنهوض بأنشطة ثقافية ورعاية صحية. ودفع ذلك أفرادا مصريين إلى الرحيل إلى دول حديثة النشأة للمساهمة في إقامة منشآت ثقافية وتربوية وتشريعية.
***
وإذا كانت الجامعة العربية قد سعت إلى تقنين العلاقات بين أعضائها (بدءا بالدول السبع المنشئة له) على صورة تعاون متعدد الأوجه، فإن العدوان الصهيوني أعطى الأولوية للجانب الأمني القومي، سواء لنصرة عرب فلسطين أو لتعضيد ما أطلق عليه "دول المواجهة" التي تعرضت لموجات متكررة من العدوان ألحقت بها أضرارا وخسائر متكررة. ولئن دعا ذلك إلى عقد "معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي" في 1950، فإن تلاحق الأحداث دفع باتجاه التعاون والتكامل الاقتصادي واللجوء إلى التكافل بدرجة أكبر من إحكام ترتيبات الدفاع المشترك، خاصة ومع تباين مصادر تهديد الأمن للبلدان المختلفة، إلى حد أنها شملت تهديدا من دول عربية. وكان أول الأحداث الهامة، تعرض الكويت عقب استقلالها في 1961 إلى تهديد من النظام الثوري العراقي الذي عرقل في الوقت نفسه مسار التكامل بدءا بتعطيل إنشاء مجلس للوحدة الاقتصادية العربية. وعمدت الكويت إلى تحريك اتفاقية الوحدة، وأنشأت صندوقا للتنمية يقدم معونات للدول الشقيقة والصديقة، لتكسب تأييدها لاستقلالها، فاستخدمت بذلك أداة التكافل معتمدة على وفرة حققتها لها إيراداتها البترولية. على الجانب الآخر شعرت المملكة السعودية بتهديد لنظامها عقب قيام الجمهورية العربية المتحدة بوحدة مصر وسوريا، وتحالفت مع حزب البعث الذي تغلغل في سوريا والعراق لإنهاء تلك الوحدة في سبتمبر 1961. وانقسمت الدول العربية إلى تقدمية ورجعية.
على أن السبعينات شهدت تطورات عالمية أثرت على العلاقات الدولية والإقليمية تأثيرا بالغا. كان أولها انهيار النظام النقدي العالمي الذي أرسته اتفاقية بريتون وودز في 1945. وبدأ القلق من مشاكل نضوب الموارد الطبيعية واحتدام أزمتي السكان والغذاء التي رفعت أسعار القمح أربعة أضعاف، ومشاكل تلوث البيئة، وتفاقم التضخم مصحوبا، بشكل غير مألوف، مع الركود. وأضاف كل هذا إلى الصعوبات التي واجهتها دول العجز العربية، وبخاصة مصر التي فوجئت بحرب يونيو 1967، فشهد مؤتمر الخرطوم بداية قوية لعملية التكافل في المجال الأمني، الذي حدد فيه عبدالناصر حجم الدعم المطلوب لتغطية خسائر إغلاق قناة السويس وتأمين الحاجات الأساسية لحين استكمال الإعداد لحرب إزالة آثار العدوان. وبدت صلابة موقفه من مداعبة العاهل السعودي للحيته التي تندر بها عبدالناصر بعد انفصال سوريا عن مصر. وفي خطابه في 26 يوليو 1976 ذكر السادات عند تناول المشكلة الاقتصادية "وبدأت منذ هذا التاريخ من سنة 1970 بدأت فعلا أستعين بإخوتنا العرب، وهنا لابد لي أن أتوجه لإخوتنا العرب بالوفاء والشكر". ثم قال "أشكر إخواننا العرب لأنهم مباشرة بعد بدء المعركة، وفي أقل من أسبوع وصلني حوالي 500 مليون دولار (كان سعر الدولار 43 قرش) نجتنا من تحت الصفر، وتوالى بعد ذلك."
***
وبفضل انتصار أكتوبر 1973 أمكن رفع أسعار النفط فحققت الدول العربية النفطية قفزة كبيرة في إيراداتها. وأعيد تقسيم الدول العربية إلى بلدان الوفرة وبلدان العجز. وتبع ذلك إعادة النظر في قضية الوحدة الاقتصادية، بل والتعاون الاقتصادي الذي تحول إلى عمل مشترك، أهم أدواته المشروعات المشتركة، وإعطاء أولية لانسياب المال العربي نحو فرص استثمارية داخل الوطن العربي وخارجه. وكان من الطبيعي أن يصحب ذلك تكافل يعين مصر على التخلص من أعباء الحرب، فاتفق على إنشاء صندوق خليجي للمساعدة في التنمية (GOAD). وأظهر إطار الخطة الخمسية الذي أعد في 1974 أن الموارد المحلية لن تتجاوز 8 مليار دولار تاركة عجزا ببلع 12 مليارا. وطال الحوار حول شروط الصندوق، والمطالبة بأن يتمتع العاملون فيه بالحصانة الدبلوماسية. وانتهز أحد وزراء المالية العرب الفرصة للحصول على موافقة مجلس الوزراء على منح نجله شقة على النيل. وواصل السادات حديثه قائلا: "واستمر فهمهم تماما إلى الاجتماع الأخير اللي عقد مع وزير المالية الدكتور أحمد أبو إسماعيل الخاص بإنشاء الصندوق ... مع هذا كله بقول لإخواتنا إن الصندوق لازم يتخذ شكل آخر غير الشكل اللي يراد له أن يقوم به" وضرب مثلا بإيطاليا التي يجري الإعداد لمنحها 10 مليار دولار دفعة واحدة. ثم قال "إحنا كل اللي بنطلبه حوالي 10 أو 12 مليار دولار على خمس سنين مش 2 مليار دولار على خمس سنين. وبرضه باقول إنه محناش حنموت أبدا". وأكد "أن مش المبالغ التي حيجمعوها هي اللي حتنفذ اقتصادنا.. لازم نستعد لها بإنسان جديد".
وتكرر الأمر حينما أنقذ مبارك الكويت في 1990 العراق، فأسقطت ديون تراكمت بسبب سياساته هو وسفه اللذين ارتكنا إلى "المعونة الأمريكية المزعومة.
***
خطاب موجه إلى الذين يعتبرون التكافل العربي مع مصر التي تجاهد لدرء عدوان قوى الشر عن الوطن العربي تسولا.. لقد جعل الإسلام في التكافل منجاة، إذا صدقت النوايا.