بقلم عمر حرقوص، صحافي وكاتب لبناني يعيش ويعمل في مدينة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدةعمل كاتباً في عدة صحف لبنانية وفي مجال انتاج الأفلام الوثائقية، ومراسلاً ميدانيا. الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.
(CNN) -- لم يكن يوماً عادياً حين نشرت علياء المهدي صورتها عارية على مواقع التواصل الاجتماعي، صادماً كان، كثر لعنوا الثورات التي أوصلتهم هذه المرحلة. كيف أن فتاة عربية تخلع ثيابها وتقف أمام الكاميرا وتنشر صورها بإرادتها، انتظروا صوراً أخرى للفتاة ليشتموها، وفي الوقت نفسه أعادوا النظر في صورتها للتأكد من أن هذا الجسد النسائي هو عربي مشتهى وليس كأجساد النساء الأجنبيات الموجودات في أفلام "البورنو". جسد علياء صار سلعة مصورة يستطيعون وضعها في أقبح تخيلاتهم.
تحولت علياء ومعها أمينة التونسية ونساء كثيرات إلى العدو الأوحد لرجال ونساء ومجتمعات بكاملها، الكل حمّل الصبيتين مسؤولية الفساد. تناسى هؤلاء المذابح والمجازر والجوع والقهر والفساد الإداري والحكومي في بلدانهم.
صبايا ملعونات كأيام السحرة في العصور الوسطى، فالمرأة التي تتعرى هي الشيطان الذي يزور القرية ويتجسد في أضعف خلقها، فيرى الناس كل مصائبهم في هذا المخلوق الضعيف، فيسعون للتخلص منه.
أي امرأة معتدى عليها هي مسؤولة عن اغتصابها أو تعريتها. من الفتاة التي كانت تلبس عباءة سوداء في إحدى ساحات القاهرة، وعراها الشرطي من ثوبها لتظهر حمالة نهديها الزرقاء، إلى المغتصبات في سجون النظام السوري واللواتي تعرضن للاغتصاب أيضاً في ساحات التحرير، تحولن جميعاً إلى منبوذات يتحملن مسؤولية ما فعل بهن ويفتش الأقربون عن عريس يخفي عار الاغتصاب.
لم تكن علياء وأمينة السيدتين العربيتين الوحيدتين في التعري، فالعري العربي قديم، وفي الصور التي وصلت من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت النساء شبه عاريات وتظهر نهودهن وأجسادهن. صورهن في بطاقات بريدية لنساء عاريات ترسل من بلادنا إلى أوروبا.
لاحقاً أتى التحرر من الضغط الديني والمجتمعي في ستينات وسبعينات القرن الماضي وصولاً إلى منتصف ثمانيناته، لينجح في إعطاء المرأة حرية مؤقتة.
في تلك السنوات كانت السيدات العربيات الممثلات في الأفلام يتعاطين مع التعري الكامل أو الجزئي كأمر شبه عادي، ولم تشن عليهن حروب من القاصي والداني. فيلم "سيدة الأقمار السوداء"، مثال عن تلك الحقبة. بينما بعد أربعين عاماً يمنع المجتمع بتشكلاته المدنية والعسكرية والقضائية برنامج تلفزيوني اسمه "الراقصة"، لأن أحدهم وجد فيه خدش للحياء. وظهرت شعارات جديدة مثل "الوقاحة والانحطاط والسفالة". وزاد تأثير علماء الدين الذين استنكروا الأفلام والموسيقى والشعر والتعرض للآلهة ويتحدثون عن مكارم الأخلاق.
في منتصف الثمانينات انهارت أفكار الثورة والحريات الخاصة مع المد الديني وعودة السلطة الذكورية في المجتمع إلى سابق عهدها، وبدأ الحجاب والشادور يأخذان النساء إلى مجاهل أخرى، تحولت المرأة إلى سلعة دينية، وصار حجابها أغلى من دم الشهيد كما كان يكتب على جدران بيروت. رمي الأسيد على بعض النساء اللواتي لبسن (ديكولتيه)، والتنورة طالت أسفل القدمين وجرجرت تراب الأرض خلفها.
قبل أيام كانت سناء عبد الفتاح تخرج من السجن لتلقي على والدها نظرة أخيرة قبل دفنه في القاهرة، صورتها مكبلة بالقيود وبكاؤها لم يحركا ضمير الغوغاء الذين هزهم أن تطرح فتاة في بيروت موضوع اللباس الداخلي للنساء. تحول "السوتيان" إلى مقدس بينما بكاء الابنة المسجونة بتهمة الكتابة، لم يحرك ساكناً في مستنقع راكد.
علياء المهدي لم تكن ضعيفة مثلما أرادها المجتمع، بل فرت خوفاً من قبضات الرجال القادرين على سحقها. فتحولت بصورتها العارية إلى سلعة علنية لا قانون يحميها ويستطيع من يشاء أن يقضي عليها. هربت علياء إلى أوروبا، وقررت زيادة المواجهة وتعرية نفسها أكثر مع دماء تنزف فوق علم "الدولة الإسلامية". المفاجأة أن ردود الفعل على صورتها في المرة الثانية لم تكن بحجم المرة الأولى.
نجحت علياء المهدي في كسر الجنون قليلاً حول نقاش عريها كأنما جسدها صار عادياً ولم يعد مستفزاً للذكورية كما في عريها الأول. جسد صغير ضعيف واجه وفعل أكثر مما واجهت وفعلت مؤسسات النسوية العربية طوال عقود.
المشكلة ليست في عري علياء وأمينة.. وهن لسن مسؤولات عن ردود الفعل العنيفة. مجتمع ولّد القهر والعنف وصنع الأجساد المتفجرة ونمى فكرة الثأر المرتبطة بالشرف وجد ضالته بالعاريات.
في مجتمعاتنا العربية لا تستطيع المرأة تغيير محيطها لأنها تخاف من تغيير نفسها أولاً، فهي معرضة للمساءلة والعقاب في كل أفعالها.
نساء قليلات فقط صنعن التغيير بطرح أفكار بسيطة لا تحمل شعارات سياسية، ينجح بعضهن كما فعلت علياء في كسر ثقافة الإبداع القمعي.
يذكر أن الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها ولا تعكس وجهة نظر CNN.