هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
حين وجه الرئيس عبدالفتاح السيسي حديثه إلى الأمة هذا الأسبوع، فإنه أهدى إلينا فضيلتين، الأولى فضيلة المكاشفة وملامسة الحقائق، والثانية انه شجعنا على أن نفتح قلوبنا ونبادله المصارحة والمكاشفة.
(1)
حمدت له أنه انفعل مثلنا بسبب الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي الذي أصاب الحياة بالشلل فى بر مصر لعدة ساعات، فقرر أن يخاطب الناس لكي يضعهم فى الصورة، مشيرا ضمنا إلى أنه يعيش معاناتهم اليومية وليس معزولا عنها، ووجدت فى ذلك إجابة على التساؤل، إذا تحدث رئيس الجمهورية عن مشكلة الكهرباء وغير ذلك من المشكلات التى تواجهها الأجهزة التنفيذية فعن أى شىء يتحدث رئيس الحكومة الذى يفترض أنه على رأس السلطة التنفيذية؟ إذ لم أجد تفسيرا لذلك سوى أنها لقطة تسجل التفاعل مع الغضب العام، وهو ما يمكن فهمه. أما كيف جاء التعبير عن ذلك الغضب، وهل كان مدروسا على النحو الذي يليق بمقام الرئاسة أم لا، فذلك شىء آخر.
إذا اعتبرنا أن تلك ملاحظة على الشكل، إلا أننا إذا دخلنا فى الموضوع فسنلاحظ لأول وهلة ان خطاب الرئيس اعتمد مدخلا عبر فيه عن ان مصر تخوض معركة وجود منذ عدة سنوات لأن هناك من يسعون إلى هدم الدولة، وعقب على ذلك بقوله ان العمل جار على قدم وساق لكي تقف الدولة على قدميها. وتلك مهمة لا تتم بين يوم وليلة، ولكن انجازها يحتاج إلى وقت ومثابرة وصبر. وقد اعتبرت جريدة «الأهرام» رسالة معركة الوجود منطلقا جوهريا فى الخطاب، فأبرزتها فى العنوان الرئيسي للصفحة الأولى (عدد الأحد 7/9). وهو ما استوقفنى لأنني أفهم ان مقتضى معركة الوجود ان تكون مصر فى مواجهة تهديد خطر يترتب عليه ان تكون أو لا تكون. وهو ما يستدعي السؤال عما إذا كانت مصر في هذا الموقف حقا أم لا. في هذا الصدد، ليست غائبة عن ذهني التفرقة بين الدولة والنظام، وان النظام هو المقصود باعتبار انه بمثابة المؤسسة السياسية التى تحكم الدولة.
إن الحديث عن معركة الوجود يمكن ان يسري على النظام السوري الذي يخوض معركة ضد شعبه منذ أكثر من 3 سنوات، وعلى الحاصل فى ليبيا المهددة بالحرب الأهلية، وعلى اليمن التى احتل فيها الحوثيون العاصمة مطالبين بإسقاط الحكومة بينما تتعالى أصوات الانفصال فى جنوب البلاد، وقد يسري على النظام السوداني الذي انفصل عنه الجنوب فى حين لم يهدأ التمرد فى دارفور وولايتى النيل الأزرق وجنوب كردفان. كما قد يفهم فى العراق الذى انفصل عنه الإقليم الكردى عمليا، ويجرى الاستعداد لتمزيق ما تبقى من البلدين الشيعة والسنة الذين خرجت جماعة داعش من عباءتهم. فى تلك النماذج يصح الحديث عن تهديد وجودي لهذه الدولة أو تلك، فهل هذا هو الحاصل في مصر؟ ــ مبلغ علمي أننا لسنا بصدد ما يمكن أن يعد تهديدا وجوديا فى الوقت الراهن (وهو تقدير يمكن ان يختلف إذا ما أدى سد النهضة الإثيوبى إلى الانتقاص من حصة مصر من المياه بعد عدة سنوات) ــ وغاية ما يمكن ان يقال ان هناك تحديات جسيمة فى سيناء إضافة إلى مشاغبات تحدث في بعض المدن، بما لا يمكن التهوين من شأنه أو تجاهله، لكنه لا يرقى إلى مستوى التهديد الوجودى بأى حال. وإذا صح ذلك التحليل فهو يعني أن التوصيف الذى أعلن يستدعى معركة لا وجود لها ويثير توترا وقلقا لا مبرر له.
(2)
رغم ان التشخيص الذي تحدث عن التهديد الوجودي لم يكن صائبا، إلا أن التفاصيل التى ذكرت عن المعركة التى تخوضها مصر تكفلت بعملية التصويب. ذلك ان الرئيس لم يتحدث عن تهديد خارجي يستهدف «الوجود» فى مصر. وذلك تقدير صحيح، لأن كل الرياح المعاكسة القادمة من الخارج لا تتجاوز حدود المشاحنات التي قد تؤثر على صورة النظام، لكنها لا تهدد وجوده. أما التحديات التى أشار إليها فكانت كلها متعلقة بمشكلات الداخل. وقد ركز الرئيس على ثلاث منها تتعلق بالقصور الحاصل فى الخدمات التى تقدم للناس. فقد تحدث عن حاجة مصر إلى ما يعادل 130 مليار جنيه لتحديث منظومة الكهرباء وتوفير احتياجات الناس منها خلال السنوات الخمس المقبلة. ذلك غير 700 مليون دولار مطلوبة سنويا لتوفير الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء.
تحدث الرئيس أيضا عن مرفق المياه والصرف الصحى، وقال ان فى مصر 4500 قرية تتبعها أكثر من 40 ألف ناحية تعانى من نقص خدمات الصرف الصحى. وهذه لا تتوفر إلا لنسبة 20٪ فقط من تلك القرى والنواحى. الأمر الذى يؤثر على الصحة العامة والزراعة والمياه، ويحتاج إلى مليارات أخرى للوفاء بالاحتياجات المطلوبة.
تحدث كذلك عن الخطوات التى تمت لتوفير المدارس، إلا أنه ذكر أن توفير خدمات التعليم على نحو مقبول يتطلب تعيين 51 ألف معلم، ولابد من توفير الموارد اللازمة للوفاء بأجورهم ورواتهم الشهرية.
الرئيس السيسى كان صادقا فيما عرضه، ولم يفته ان ينبه إلى أن التدهور الحاصل ليس مقصورا على المجالات التى أشار إليها، ولكنه شامل لكل المرافق والخدمات الأخرى. فالمستشفيات والسكة الحديد والمحليات وبقية الخدمات التى يفترض ان تقدم للناس ليست أفضل كثيرا من الكهرباء والصرف الصحى والأبنية المدرسية (لا تسأل عن نوعية التعليم). وذلك جانب واحد من جوانب العبء الثقيل الذى خلفته عهود الفساد والاستبداد التى همشت المجتمع وانحازت إلى الأغنياء طول الوقت.
(3)
الكلام بهذه الصورة يقلقنا مرتين. مرة لأنه قلَّب علينا المواجع، وذكرنا بمدى تدهور الخدمات الأساسية التى تقدم إلى الناس. وهو قلق يتضاعف حين تنضاف إليه المعلومات المتعلقة بتوقف أكثر من 4000 مصنع عن العمل. وبحوادث الطرق التى صرنا نقرأها كل صباح، إضافة إلى عدم الاستقرار الأمنى الذى أساء إلى سمعة البلد وضرب السياحة، فضلا عن الاستقطاب السياسى الذى أشاع الانقسام والكراهية فى المجتمع.
المصدر الثانى للقلق ان الرئىس حدثنا عن التحديات والمشكلات الكبرى التى تثقل كاهل السلطة، دون ان يحدثنا لا عن تصوره للخروج من الأزمة أو أفق الحل فى المستقبل القريب أو البعيد.
إن أزمات المجتمع نعرفها ونستشعرها جميعا. ولسنا بحاجة إلى من يرشدنا إليها، لكن قَدَر السلطة ان تتحمل مسئولية إدارة تلك الأزمات أو حلها، أو إقناع الناس بأن ثمة أملا فى حلها يوما ما، أما حين يستدعى المسئول قائمة الأزمات ويقنعنا بخطورتها، ثم يكتفى بذلك ولا يطلعنا على خطته فى حلها أو مقترحاته فى ذلك، فإنه لن يختلف كثيرا عن الطبيب الذى يشخص المرض ويبلغ المريض وأهله بما أصابه، ثم يدير ظهره لهم وينصرف.
لقد قال لى أحد الخبراء المخضرمين انه توقع أن يختم الرئيس السيسى كلمته بإجراءات يعلنها على الملأ لمواجهة التحدى الذى تحدث عنه. توقع مثلا إقالة وزير الكهرباء من منصبه بعد الذى حدث يوم الخميس. أو إصداره قرارات أو توجيهات تساعد على توفير الموارد المطلوبة للنهوض بالخدمات، من قبيل إعلان سياسة التقشف وخفض النفقات فى مؤسسات الدولة، أو فرض ضرائب جديدة على بعض الشرائح. أو زيادة الضريبة التصاعدية على الدخل ورفعها بحيث تتجاوز نسبة 25٪ المطبقة حاليا علما بأن نسبتها تصل فى بعض الدول الأوروبية إلى 65٪. منها أيضا وقف استيراد بعض السلع الكمالية التى تشكل عبئا غير مبرر على رصيد الخزانة من النقد الأجنبى. أو ضم الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة أو غير ذلك من الإجراءات التى يفترض أن تستدعى لمواجهة الخدمات التى تحدث عنها الرئيس. أما تسليط الأضواء على مشكلات حيوية من قبيل تلك التى ذكرت فى الخطاب، ثم السكوت عن الحلول المرجوة أو المقترحة، فهو يعنى ان ثمة قصورا فى إعداده وان التسرع والانفعال أثرا على الرسالة التى وجهها، بحيث غدت مقصورة على التشخيص دون الإشارة إلى أى علاج يطمئن الرأى العام.
(4)
إذا تصدعت جدران بيتك بحيث صار مرشحا للسقوط ويواجه بالتالى تحديا «وجوديا»، فأيهما أولى فى هذه الحالة: ان تسارع إلى ترميم البيت أم ان تشرع فى إقامة بيت جديد؟ ــ سيكون الحل الأمثل فى هذه الحالة ان تقوم بالمهمَّتين فى وقت واحد، إذا كان ذلك بمقدورك، ولكن إذا عجزت عن ذلك، فأيهما نختار؟ هذا السؤال يرد فى السياق الذى نحن بصدده، حين تواجه السلطة تحديات آنية جسيمة من ذلك القبيل الذى أشار إليه الرئيس وفى الوقت ذاته نجدها تتجه إلى شق قناة جديدة بالسويس أو استصلاح أربعة ملايين فدان أو إعادة رسم الجغرافيا المصرية بإضافة محافظات جديدة أو غير ذلك من المشروعات الكبيرة والمهمة التى باتت تحتل عناوين الصحف المصرية بين الحين والآخر.
هذه المقابلة تستدعى اسئلة كثيرة حول أولويات المرحلة والجهات التى تتولى دراسة تلك المشروعات وتقررها، والمؤسسات التى تناقش وتراجع وتحاسب على الأداء فى مختلف المسارات. كما انها تولد اسئلة أخرى حول مساعدى الرئيس ومستشاريه، وحول دور المجالس المنتخبة والحوار المجتمعى الذى ينبغى أن يكون له حضوره فى التقدير وترتيب الأولويات والحساب والمساءلة، وغير ذلك عما تقتضيه الشفافية وحسن التدبير. وفى حدود علمى فإن أغلب تلك المشروعات الكبيرة التى يجرى الحديث عنها لم تكن جديدة، ولكنها أفكار طرحت، لكنها تأجلت بسبب عدم توفر امكانيات التنفيذ. وقال لى أحد الشهود ان فكرة حفر قناة جديدة للسيوس مثلا طرحت على الرئيس الأسبق حسنى مبارك وكان رده: دبروا التمويل أولا ثم تحدثوا فى الموضوع.
لست فى موقف يسمح لى بالمفاضلة بين الخيارات والأولويات، لكننى أتحدث عن الآلية التى يفترض ان يتحقق بها ذلك. وبهذه المناسبة فقد بدا مناسبا لأول وهلة ان يصدر وسط تلك الأجواء القرار الجمهورى بتشكيل المجلس الاستشارى لعلماء وخبراء مصر. وإذ قدرت الفكرة والأسماء الكبيرة التى ضمها التشكيل، إلا أننى لم أقتنع بأن المجلس بهذه الصورة يمثل علماء مصر، واستغربت ان يمثل علماء الاقتصاد الذى هو عقدة العقد فى الموضوع الراهن شخص واحد هو الدكتور محمد العريان، الذى له احترامه لا ريب ولكنه ليس مقيما فى مصر ويعمل فى الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من عشرين عاما. ولاحظت أن حضور الاقتصاد بين خبراء المجلس معادل لحضور الصحة النفسية التى مثلت بشخص الدكتور أحمد عكاشة. وطبق لنص القرار الجمهورى الذى صدر فى 6/9 فإن اختصاص المجلس الاستشارى يكاد يكون صورة متقدمة لفكرة المجالس القومية المتخصصة، التى تحدث عنها الرئيس عبدالناصر يوما ما ونفذها الرئيس السادات بقرار أصدره ى عام 1974. من هذه الزاوية يبدو أن المجلس فيه من الوجاهة السياسية والقيمة الأدبية أكثر مما فيه من القيمة العلمية. والسبب الجوهرى لذلك ان دوره استشارى وان القرار يصدر من خارجه. وهو ما يعنى انه سيضيف مؤسسة جديدة لكنه لن يسد ثغرة. كما يعنى أن الغموض سيظل محيطا بدائرة اتخاذ القرار، كما ان دور المجتمع سيظل غائبا عن تلك الدائرة.
إذا جاز لى أن ألخص ما خرجت به من كلمة الرئيس السيسى فقد أقول أنه بصَّرنا بالنَفَق الذى نحن فيه، لكنه لم يدلنا على الضوء الذى نهتدى به للخروج منه.