هذا المقال بقلم أشرف حسين، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
توصّف مقالة الدكتور محمد محمود الإمام "حقوق للإنسان... أم ترويض للحكام"، (الشروق الاثنين 1 سبتمبر) الحركة الدولية لحقوق الإنسان كاستمرار للسعي الدائب للقوى الغربية من أجل "مؤازرة الفرد في الدول النامية على مواجهة السلطة الحاكمة بموجب ميثاق للحقوق السياسية للإنسان" في إطار مساعي الغرب التآمرية ﻹضعاف هذه الدول وتعويقها عن التنمية.
يعيد المقال إنتاج الرؤى المتصارعة للحرب الباردة. فمن ناحية رأى الغرب في اشتراكية الدولة القائمة في الكتلة الشرقية نفيا كاملا لكل الحقوق السياسية والمدنية المنصوص عليها في العهد الدولي بينما نظر المعسكر الاشتراكي إلى العهد كله على أنه مجرد تحايل من الرأسمالية الدولية التي تخشى استحقاقات العدالة الاقتصادية والاجتماعية كما بشر بها نموذج الاشتراكية السوفيتية.
اقنعت الحكومات الشيوعية شعوبها بأن الحقوق الفردية والسياسية هي كعب أخيل الذي تتسلل منه قوى الامبريالية العالمية لمحاصرة الاشتراكية. الرأسمالية بقيادة واشنطن وأمام شبح “قوى الشر الشيوعية” نظرت لمطالب مثل حد أدنى للأجور وإعانة بطالة وتأمين صحي شامل أو مطالب دولية تتعلق بحق دول الجنوب في نصيب عادل من ثرواتها القومية على أنها كلها مطالب تهدد أسس الحضارة القائمة على اقتصاد السوق الطليقة، أو على أنها مؤامرة شيوعية.
سعت أمريكا لاحتكار الحديث باسم الحقوق السياسية والمدنية وسعت الكتلة الشيوعية والأنظمة الوطنية للتركيز على الحديث باسم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. هكذا بدت الصورة في ظل الحرب الباردة. كان العنوان الرئيسي لهذا الاستقطاب، هو محاولة البعض لخلق تناقض مصطنع بين العهدين الأشهر لحقوق الإنسان: العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كان انتهاء الحرب الباردة والفراغ الأيديولوجي الناتج اعتبارا من التسعينيات إيذانا بمحاولة تجسير الفجوة بين الحقوق الفردية والجماعية، السياسية والمدنية من جانب والاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر. من هنا ولد المبدأ الرئيسي لحركة حقوق الإنسان الدولية وهو: الحقوق لا تتجزأ. إذا كانت مقالة الدكتور الإمام تحذرنا من تجزئة الحقوق وعدم تغافل الحقوق الجماعية كالحق في التنمية، فهو أمر ينبغي تأييده ، أما إذا كانت تدعو لأولوية حق على حق آخر كما يبدو لي، فهذه رؤية لا يسعها إلا إعادة إنتاج الفشل والتيئيس من التغيير -- أشرف حسين
***
لا يقدم لنا مناخ الاستقطاب الأيديولوجي الذي هيمن في مرحلة بناء دولنا “الوطنية” ما بعد الاستعمار سوى اختيارات محدودة وبائسة. ولم تجد جماعات كبيرة من الناس في بلداننا في ظل فشل النموذجين إلا خيار ثالث، وهو أن التحرر في الحياة الدنيا مستحيل -- أشرف حسين ، فلنعد لآخرتنا لعل الله يعوضنا خيرا في تبسيط مخل وبائس بدروه لدور الدين في الحياة. هكذا فعلنا وسلمنا منطقتنا للإسلام السياسي. أخشى أن مقالة الدكتور الإمام تريد أن تعيدنا الى هذا الخيار: حريات الأفراد أم حريات الدول والجماعات.
لقد تجاوز العالم هذا الخيار في العقود القليلة الماضية. وهناك عدة شواهد:
أولا: أغلب الدول الأوروبية الرأسمالية التي تحترم الحقوق والحريات الفردية والمدنية هي دول موقعة أيضا على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الولايات المتحدة هي الاستثناء حيث لم تصدق على العهد الدولي). وتقتصر وان رؤية التطرف الليبرالي الاقتصادي للسوق الطليقة تقريبا على الولايات المتحدة الأمريكية بينما نرى إصلاحات إجتماعية تستجيب للعديد من الحقوق الإجتماعية خاصة في أنظمة السوق الاجتماعي في أوروبا.
ثانيا: أن الدول التي تتعامل بتشكك مع الحقوق والحريات المدنية باعتبارها منتجات إمبريالية، أصبحت غير قادرة او راغبة في ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعد أن استنفذت قدرتها على العطاء، بل أصبحت شريكاً اقتصادياً وسياسياً لهذه القوى الإمبريالية (وطبعا لا تتواني هذه الحكومات الوطنية رغم هذه الشراكة العلنية عن اتهام جماعات حقوق الانسان الوطنية بالعمالة لهذه القوى !!(
ثالثا: حركات حقوق الإنسان التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة تحررت الى حد بعيد من هذه الثنائية بين التحرر الاقتصادي والتحرر السياسي، بل نستطيع القول أن التحدي الرئيسي للهيمنة الاقتصادية الغربية والمطالبات بإصلاح منظومة السوق الطليق أصبحت ملمحا رئيسيا من ملامح العمل في مجالات حقوق الإنسان الإقتصادية والاجتماعية في كل من بلدان الشمال والجنوب. الحركات الاجتماعية التي تستظل بالميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتطالب بالدواء للجميع على سبيل المثال تصطدم باحتكارات صناعة الدواء الدولية المرتكزة على مبدأ قدسية حقوق الملكية والفكرية الخاصة.
رابعا: ترتكز مشروعية فكرة تجزئة الحقوق وضرورة خضوعها للأولويات على فكرة مبسطة (ولكنها خاطئة) وهي أن تفعيل الحقوق السياسية والمدنية مسألة مجانية لا تتطلب أكثر من عدم انتهاك هذه الحقوق -- أشرف حسين وليس العمل الفعال وتخصيص الموارد من اجل ضمانها، وذلك على خلاف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج موارد ضخمة. ولكن هذه التفرقة مبالغ فيها في الواقع الفعلي، فإن كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تستلزم إمكانيات مادية وإصلاحات مؤسسية تدريجية فكذلك الأمر مع الحقوق والحريات المدنية والسياسية. التزام الشرطة بالمعايير الدولية في فض المظاهرات مثلا يستلزم إنفاقا على اجهزة ومعدات ملائمة وتدريبا للعاملين في الشرطة.
وفي مجال الحقوق الاقتصادية الاجتماعية التي يراد لها أن ترتكز على مبدأ التدرج في التطبيق وفقا للإمكانيات، وجدنا حكومات العالم الثالث أكثر حماسا ـ لفظيا على الأقل ـ للتوقيع على الاتفاقيات والمواثيق الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ثم التعلل بضعف الامكانيات والموارد المادية تبريرا لعدم التطبيق. وفي حقيقة اﻷمر فإن توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أحيان عديدة لا يستلزم أموالا طائلة بل إصلاحا مؤسسيا عاجلا - قد يكون مكلف سياسيا ولكنه غير مكلف بالضرورة ـ بل وموفرـ اقتصاديا. من يعملون في حقل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يعلمون جيدا كيف أن إخضاع الموظف العام الذي يقدم خدمة للجمهور للمسائلة الشعبية من المستهلكين المنخرطين في جمعيات أهلية مستقلة يقلل من الإنفاق العام ولا يزيده. يعلم المطلعون على جهود منظمات حقوق الإنسان في حقل مراقبة الموازنة العامة، أنهم لا يطالبون وفقط بزيادة الإنفاق لتلبية الحقوق ولكن أيضا بمراقبته من أجل تقليل الهدر وبزيادة الإيرادات عبر الإصلاح الضريبي. يعمل المؤمنون بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على تقديم وبحث الحلول خارج الأطر الأيديولوجية الجامدة، ولكنهم يعلمون أيضا مدى حاجتهم للحقوق السياسية الأولية من أجل التغيير. العبرة هنا بتوافر الإرادة السياسية بالبدء في خطوات فعلية وملموسة سواء تحدثنا عن حقوق فردية أو جماعية، اقتصادية أو سياسية، مدنية أو اجتماعية -- أشرف حسين .
***
وأخيرا، فإذا كان مناخ الحرب الباردة قد خلق استقطابا غير ضروري بين الحقوق الفردية والجماعية كما أوضحنا عالية، فعلى نفس المنوال فإن استغلال مناخ الحرب على الإرهاب في المنطقة من أجل تجاهل الحقوق السياسية والمدنية بدعوى إنجاح هذه المواجهة ليس فقط خطأ كبير بل إنه يضعف قدرة الشعب والمجتمع على المواجهة الفعالة للخطر الارهابي الحقيقي -- أشرف حسين إن لم يؤدي لزيادة التطرف والراديكالية. المؤكد على المدى البعيد أن تلبية وحماية هذه الحقوق والحريات هي الضمان للانتصار في الحرب على الإرهاب.