رأي.. دولة لا تحتاج مواطنيها!

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير ريم عبد الحليم
رأي.. دولة لا تحتاج مواطنيها!
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم ريم عبد الحليم، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

يتطلب العمل الجاد على رفع جودة الخدمات العامة وتوفير سبل الحياة الكريمة لكل إنسان، الدراية بكافة تفاصيل المشكلات التي أدت لتدني مستويات العيش وإلى غياب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتحديد أولويات الحل ومعوقات الفعالية.

وهو ما يعني بالضرورة ليس فقط اعتراف منظومة الحكم للإنسان بالحق فى العيش الكريم وحمايتها لهذا الحق وضمان الوفاء المستمر به، ولكن اعترافها فى الوقت نفسه بحاجتها لدور قوي للمواطن فى "المشاركة" والتعبير عن الاحتياجات والتقييم المستمر بحرية كاملة، وفي هذه الحالة يكون الإنسان مدخل وهدف للتنمية، وتصبح حريته كحق فردي مكمل أساسي لحقوقه الاقتصادية والاجتماعية.

***

ولكن قد يحدث أن تقرر السلطة أن تسلك مسلكاً يبتعد كثيراً عن المسار السابق، بأن تستهدف بالأساس إخفاء أو التشويش على الأصوات الشاكية من تدهور الخدمات وفقدان الحقوق، وذلك بغلق كافة قنوات التواصل أي تختار منظومة الحكم "القمع" بأشكاله المتعددة. 

اختيار القمع قد يعني أن السلطة لا تعترف بحقوق مواطنيها فى الحياة الكريمة من الأساس، ومن ثم فلا يلزمها الاستماع لشكواهم وإشراكهم، بل قد يضيرها ويضير نمط علاقات المصالح الذي تنسجه لتعتمد عليه فى البقاء أن توضع موضع التقييم ممن هم خارجه، وأن تعترف لهم بهذا الدور، فهذا الاعتراف يفقدها مصداقيتها أمام الفئات الأجدى بالرعاية بالنسبة لها، فالقرارات محسومة والوعود تم قطعها، وكل ما تحتاجه منظومة الحكم وشبكات المصالح هي سرعة التنفيذ، والتي تتطلب اتفاق بين عدد محدود من متخذي القرار المتناغمين. 

يكون القمع في هذه الحالة هو أداة السلطة لحماية الفساد وتركز الثروات والاستفادة منهما. ربما تدرك السلطة هنا أن القمع بديل "مُر" لأنه قد يجعل نهايتها أسرع، ولكنها لا تسعى من الأساس للخروج من هذه النهاية -- ريم عبد الحليم نحو المستقبل، بقدر ما تسعى  لاحتكار أكبر قدر ممكن من الأدوات الاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية بشكل يصعب على المجتمع كله الخروج من مرحلة النهاية نحو مستقبل لا يتضمن تحكمها به، بل قد تحتكر آليات "مكافحة" الفساد، دون المستفيد والمضار الأساسي من السياسات وهو المواطن، حتى تصيغها كما يناسبها ويمكنها من إدارة العلاقة مع جماعات المصالح لصالحها فى حالة وجود صراعات. السلطة في هذه الحالة تكون مذعورة من وجود مجتمع قوي، وينعكس الذعر حتى فى مفردات خطابها:  "أنا الأمن والأمن أنا" و "أنا أو الفوضى" " كل ما هو دونى انعكاس لمؤامرة"...

وقد تختار السلطة القمع لأنها ترى أن المشاركة رفاهية غير مجدية بل ومكلفة سواء في ذاتها أو فيما تتطلبه من نتائج؛ فتكرر خطاب أن الآن - ولا نستطيع أبداً أن نحدد إلى متى يستمر هذا "الآن" -  الدولة فقيرة وعاجزة عن تلبية ما يراه المطالبون بالمشاركة والحرية والعمل وفق رؤية اقتصادية واجتماعية تتوافق ومفهوم الحقوق، فهي تحتاج فقط للأموال، والمشاركة حق فقط لمن يملك هذه الأموال، أما بقية المجتمع عليه أن ينتظر. 

***

رأس المال المطلوب مملوك لعدد محدود من أصحاب الثروات محلياً ودولياً ولمؤسسات التمويل الدولية الجاهزة دائماً بحلول سريعة -- ريم عبد الحليم تحفظ لنموذجها للنمو والتنمية القدرة على الاستمرار مهما ثبت فشله. 

السلطة في هذه الحالة يقلقها أن يعي المواطن أن له حقوق وأن له دور فى صياغة وضمان حصوله عليها لأنها ترغب فى الاحتفاظ لنفسها بمساحة للتنازل عن حقوق مواطنيها مقابل حصولها على التمويل المطلوب لاستيفاء متطلبات المؤسسات من أرقام تعكس تحسم ما في الوضع الاقتصادي.  فتؤجل مثلاً نظام التأمين الصحي الشامل وتكتفي ببرامج استهدافية محدودة تباع من قبل المؤسسات الدولية، أو تتغاضى عن حق الإنسان في العيش الكريم والأجر المناسب والأمن الاجتماعي وتكتفي بالأجزاء الهزيلة من شبكات الضمان الاجتماعي التي يتاح لها تمويل من المؤسسات الدولية.  فرؤية السلطة تعيد تعريف كافة أهداف سياستها التنموية وفق التمويل "المتاح"!  -- ريم عبد الحليم

فيفوتها أنه من غير المنطقي تسخير المجتمع للتمويل وليس تسخير التمويل لخدمة مصالح المجتمع وأولوياته، ومن غير المنطقي كذلك انتظار تحول مفاجئ للمسار فى الأجل الأطول، إن السلطة هنا، تجعل المجتمع حبيساً لبرامج التنمية المفروضة عليها من الممولين، ولا يمكنها أن تعكس مصلحة مواطنيها وبالأخص الأفقر والأدنى صوتاً، لأن من يحتكر الأموال لن يرضى أبداً أن يمنح غيره سلطة تكوين الثروات والاعتماد على الذات، فيفقد ميزته النسبية التى يقتات منها، فلابد وأن تبقى آليات مكافحة الفقر فى أطر محكومة يرضى الممَوِل عنها.

كما أنها في هذه الحالة، تصر على رؤية خاطئة مفادها أن الأزمة الاقتصادية وضيق ذات اليد وعجز الموازنة وانخفاض النمو هي أسباب عدم حصول المواطنين على حقوقهم فى خدمات مرتفعة الجودة وحياة كريمة، وهي رؤية غير صحيحة ولا تتفق مع ما أثبته الواقع؛  ففي فترات ارتفاع النمو لم تُضمن بأي صورة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، بل تراكم في فترات النمو المرتفع الفقر المكتوم وانفجرت مؤشراته فى أوقات الأزمات.  والأهم أن الأزمة الاقتصادية يحملها نموذج النمو الضيق نفسه، ولا تأتي أبداً من فراغ.  

وفى حالة ثالثة، قد تنظر السلطة الحاكمة للمشاركة والحرية على أنها قيم غير ضرورية لخلق حياة كريمة من الأساس، أي تفصل بين الحرية والمشاركة وحصول الإنسان على احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية، فترى أنها وحدها تعرف ماذا "يحتاج الشعب" اليوم وغداً، وعلى المواطن أن يتنازل عن المشاركة والتقييم وأنماط التعبير عن الرأي ويكتفى بالحصول على الاحتياجات الاقتصادية والإجتماعية بطريقة منحوية، هي هنا تستهدف نجاح يقتصر على إتاحة الخدمات العامة وربما تيسير سبل النفاذ إليها، ولكن لا يمكنها بأي حال ضمان تحقيق فعاليتها أو استدامة هذه الفعالية، لأنها تحتاج لجهاز حكومي وإدارة اقتصادية قادران على التطهير الذاتي من الفساد وإساءة إستخدام مساحات الانفراد بالقدرة على المنح والمنع، وهو الأمر الفاقد للمنطق. فسرعان ما يترهل النموذج وينهار بسبب تكوين أنماط مختلفة من شبكات المصالح البيروقراطية.  

***

مسارات عدة أحاول أن أتصورها لتفسير اختيار من يحكم وطناً قمع مواطنيه، إلا أن الشعور الأقوى لدي أنه ليس من المنطقي أن نكتب فى تبرير المطالبة بالحرية والمشاركة والشفافية، وتفنيد أسبابها وأهميتها من الناحية العلمية، بقدر ما يبدو منطقياً أن يطالب الجميع بتبريرات واضحة يقبلها العقل لنوع فريد من القمع تستكمل فيه الهجمة على المنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني رحلة غلق قنوات المشاركة والتعبير عن الرأي، وبشكل يأتي بالتزامن مع التأسيس لمرحلة جديدة، رأينا فى بشائرها قوانين لحماية العقود التي تجريها الدولة مع المستثمرين وإجراءات ظالمة لعنصر العمل وإجراءات تقشفية، مع مطالبة المحرومين من المشاركة بالرأي بالمشاركة فى دفع الأموال وفي التضحية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ربما حتى حين وربما دائماً!

***

خرج الملايين للشارع سابقاً بسبب تردي مستوى العيش وقمع الحريات، ولم يمنعهم قانون الطوارئ آنذاك، ولعل اختصار السلطات لأسباب هذا الخروج فى وجود صوت تكلم وأذن سمعت خطأ كبير بنت عليه رؤيتها فى أن قمع الصوت وتغييب وعي الأذن كافيان لتجنب غضب شعبي مماثل -- ريم عبد الحليم، فإنكار الحقيقة لا يعني غيابها، والإنسان يطالب بحقوقه لأنه إنسان جُبل عليها وخلقت معه، وليس لأنها كتبت فى مواثيق أو عمل عليها فرق عمل فى مؤسسات، وكلما يتم غلق قنوات التعبير والدفاع عن حق البشر فى حياة كريمة بمعناها الكامل الذي لا تنفصل فيه الحرية عن العيش الكريم سوف يوجد البشر قنوات جديدة تنبني على مساحة أكبر من الحرية.

فحرمان الإنسان من المشاركة والحرية يقتضي تغييب وعي البشر بشكل كامل وتجريدهم من صفاتهم الإنسانية. إنه ثمن مؤلم وباهظ لا أدري لماذا ولا كيف يُتوقع تحمله!