هذا المقال بقلم آمال قرامي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
سوّق حزب النهضة نفسه في انتخابات 2011، على أساس أنّه مخلّص العباد والبلاد من مشاكل مزمنة. فادّعى أنّه سيعيد تثبيت الهوية العربية الإسلامية، ويفعّل منظومة القيم، وسيقيم العدالة الاجتماعية، ويدمج المهمّشين إلى غير ذلك من الوعود التي بثّت الأمل في نفوس فئة من التونسيين المكدودين، وجعلتهم يؤمنون بمشروع واعد. وعلى مرّ الأيام اكتشف الناس أنّ الوعود لم تنجز، وأنّ التراجع قد تمّ، وأنّ الأزمات تفاقمت، وهو ما أدّى إلى فقدان حزب النهضة عددا من الأنصار، وخروج عدد من المناضلين من التنظيم.
وها هو حزب نداء تونس يسير على ركب من سبق فيعيد على أسماعنا نفس النغم. لا ينفكّ أتباعه عن ترويج فكرة مفادها : 'لا حلّ لمقاومة 'جبروت النهضة' والتصدّي للجهاديين إلاّ بالتصويت لصالح 'نداء تونس' فهو الذي سينقذ تونس من 'الرجعيّة ' و' الظلاميّة' و'القروسطية'، وسيعيد تونس إلى عهدها السالف 'بلد الأمن والأمان' والحداثة و....
ولئن واجههم بعض المتردّدين بأنّ حزب نداء تونس أضحى يعيد إنتاج نفس النخب التي حكمت البلاد وفق تصوّر يجعل اللوبيات تسيطر على الدولة وتسيّر المؤسسات لحماية امتيازاتها، وتصوغ السياسات وفق مصالحها الخاصّة وتقيم نظاما تراتبيا هرميا يقصي بقية الفئات الاجتماعية... أجاب الأتباع بأنّ الزمن ليس زمن المحاسبة وغربلة الصالح من الطالح بل إنّ السياق يفرض اختيار هذا الحزب بالذات لأنّه الحزب الذي سيتعامل مع النهضة بطريقة نديّة ولن يكون 'منبطحا' كحزب التكتل أو حزب المؤتمر. حزب النداء حديث النشأة أي نعم ولكنّه يملك المال، وتدعمه كوكبة من المثقفين الذين سيمنحونه تأشيرة العبور.
***
إنّ قراءة المشهد السياسي من خلال استقطاب 'صوري' بين حزب النهضة من جهة، وحزب نداء تونس يقودنا إلى الاستنتاجات التالية:
-هذا الخطاب الوثوقي الذي يتكهّن بنتائج الانتخابات مسبقا، ويدّعي أنّ سفينة النجاة لا يملكها إلاّ أصحاب اليمين أو أصحاب اليسار يعيد إنتاج النظام الاستبدادي بطريقة ما لأنّه استعلائي، وموصول إلى منظومة الهيمنة. فهو يستنقص من شأن بقية الخصوم السياسية، ولا يقرّ بوجود منافسة حقيقية مع أحزاب أخرى تعرض حلولا وخيارات وتصورات مختلفة كحزب آفاق تونس، والتيار الديمقراطي، والجبهة الشعبية، والمسار... ومعنى هذا أنّ حزب النداء لا يؤمن بتكريس التعددية السياسية الفعلية.
-حين تغيب البرامج والتصوّرات التي من شأنها أن تقترح بعض الحلول لإدارة البلاد، وحين يعسر القطع مع الأساليب المهترئة، والبنى الذهنية التي عجزت عن مواكبة روح الثورة يغدو بثّ الأمل واللعب على سجلّ العواطف، وتوظيف المخاوف، وفرض صورة الأب الحامي، والمخلّص والذي يملك سفينة النجاة وبإمكانه الوصول بأبنائه الأبرار إلى برّ الأمان هو الوسيلة المتوفرّة إذ ليس بالإمكان تحقيق أفضل ممّا كان.
-لا يولي حزب نداء تونس اعتبارا لنظام الفرضيات، ولا يقيم وزنا لعنصر المفاجأة في الانتخابات، ويتوقّع تحقيق كسب عظيم، ونصر مبين، والحال أنّ التجارب الانتخابية في كلّ الديمقراطيات تعترف بأنّ خيارات الناخب/ة رهينة البنية النفسية سويعات قبل انطلاق العملية الانتخابية، وهي مرتبطة أيضا بالمناخ العام، والسياق المحدّد، وهذا يعني أنّ الناخب/ة قادر على تغيير رأيه في آخر وقت.
- إنّ التأكيد على ملفّ الإرهاب، وما نجم عن تراخي حكومة الترويكا في معالجته من نتائج وخيمة، من جهة، وحماية نمط العيش التونسي المرن والمنفتح، من جهة أخرى، لا يحترم الناخب/ة ولا يحثّه على عقلنة خياراته، وتحمّل مسؤوليته بل إنّ هذا الأسلوب يفرض الوصاية الأبوية على الناخبين، ويتعامل معهم على أساس أنّهم لم يبلغوا سنّ الرشد كما أنّه يحرّك العواطف ويستغلّ سياقا صار فيه الخوف من الإرهاب مهيمنا ليوهم الناس بأنّه يمتلك الحلّ.
***
ما يتردّد على ألسنة التونسيين الذين قبلوا المشاركة في العملية الانتخابية هو أنّهم أمام خيارين كلاهما مرّ: سيختارون بين السيئ والأشدّ سوءا. وليس اجترار هذه الأفكار إلاّ علامة على دخلنة ما يروجّ له بعض السياسيين من أنّ تونس ديمقراطية ناشئة ستحكم بالتوافق بين حزبين قويين يملكان المال، والدهاء، ويتكئان على سند موثوق فيه 'الغرب' الذي يحصّن التجربة التونسية من كلّ سوء حفظا لمصالحه.
سترفع الشعارات من جديد: انتخابات تونس 2014 'شفافة ونزيهة' ودارت في مناخ سلمي يكرّس الديمقراطية، ويرضي الأخوة الأعداء. أمّا بقية الأحزاب فليس أمامها سوى الرضى بالنصيب والمقدّر وأن تتعلّم اللعب على أصوله. فهل هذا الأنموذج التونسي؟