رأي.. هل تتحقق طموحات تركيا الخارجية؟

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
رأي.. هل تتحقق طموحات تركيا الخارجية؟
القنصل التركي في الموصل يحيي الناس بعد خطاب لرئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو بعد انتهاء قضية الرهائن الذين كانوا محتجزين في شمال العراقCredit: ADEM ALTAN/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

.إن الرجل الذي يقبع على رأس الحكومة التركية الآن هو نفسه المتهم بالمسئولية عن فشل وتخبط السياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الماضية، فهل ينجح خلفيته وزير الخارجية الحالي الدكتور مولود جاويش أوغلو في إصلاح ما فسد؟.

كان السؤال الفائت واحد من أهم الأسئلة التي شغلت الساحة الداخلية التركية وكذلك شغلت دوائر صنع القرار الغربية المهتمة بتطورات الشأن التركي خلال الشهر الفائت! وخارج دوائر حزب العدالة والتنمية الحاكم تكاد تكون الإجابة هي "لا"،  ليس بسبب عدم قدرة السيد مولود جاويش على التغيير أو الإصلاح، ولكن ببساطة لأن الموضوع يتخطاه، فالمعلم التركي والمخطط للسياسة التركية طوال السنوات الماضية مازال على رأس السلطة ويعتقد بشدة أنه سيستمر المخطط الأول للسياسة الخارجية التركية خلال المرحلة القادمة.

***

تولى داوود أوغلو ملف الخارجية عام ٢٠٠٩ بعد مسيرة أكاديمية ناجحة ومرموقة، وسريعا ما بدأ داوود في رسم ملامح السياسة الخارجية التركية التي استندت إلى مبدأين واضحين سبق وعبر عنهما في كتاباته الأكاديمية، الأول: أن العمق الاستراتيجي الحقيقي لتركيا ليس في التوجه غربا نحو أوروبا ولكنه في إعادة العلاقات الاستراتيجية مع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية السابقة، وهو ما يعنى إعادة بناء علاقات استراتيجية مع الدول العربية والشرق أوسطية، فالعمق الإسلامي بالنسبة لتركيا هو الأساس الذى سيمكن تركيا من الدخول بثقلها وبندية مع الاتحاد الأوروبي، اعتمادا على قيام تركيا بتقديم نموذج ناجح للغرب "للإسلام الديمقراطي"، وتقديم نموذج يحتذى به للعالم العربي والإسلامي في الجمع بين الإسلام والحداثة والتقدم. أما المبدأ الثاني فهو أن تنجح تركيا في صناعة سياسة خارجية صفرية المشاكل مع الجيران.

كانت القوة الرئيسية لداوود أوغلو هي توقعه بقيام ثورات الربيع العربي، وقد استغلت تركيا هذه الثورات في تعضيد وجودها حيث دعمت بشدة عملية التحول في تونس ومصر وليبيا فضلا عن سوريا. إلا أنه وبعد أن تراجعت هذه الثورات عن التأثير تعرضت السياسة الخارجية التركية لترنحات شديدة أفقدتها قدرتها على التأثير، ولأول مرة منذ عقود فإن أنقرة الأن لا تملك سفراء في القاهرة ودمشق وتل أبيب معا وهو تعبير واضح عن أزمة السياسة الخارجية -- أحمد عبد ربه وأنها خرجت بشدة عن مبدأ صفرية المشاكل الذى حاول أوغلو اتباعه وخاصة إذا ما أضفنا إلى تلك الأزمات العلاقة المتوترة بين تركيا ودول الخليج في ظل دعم الأولى لجماعة الإخوان المسلمين بالإضافة إلي العراق الغاضبة من اتباع تركيا سياسات داعمة لحزب العمال الكردستاني واتهام بغداد لأنقرة بدعم نقل البترول من شمال العراق إلى تركيا دون إذن الأولى.

***

وبحسب عدد من الباحثين الأتراك فإن السياسة الخارجية التركية تعتمد على أربع افتراضات رئيسية، الافتراض الأول؛ أن الرابطة الدينية الإسلامية ستحل محل القومية في دول الشرق الأوسط كصانع لهويات الشعوب في تلك المنطقة، والثاني أن قادة الشرق الأوسط وخصوصا في المحيط العربي سينظرون إلى تركيا باعتبارها المثل الأعلى في نموذج الإسلام الوسطي المتماشي مع الديمقراطية والحداثة، أما الثالث فهو أن هذه الصحوة الدينية المحافظة ستتيح الفرصة لتركيا للتأثير الكبير على المنطقة، بينما يقوم الفرض الرابع والأخير على أن الولايات المتحدة تتبع سياسات تآمرية ضد المنطقة من أجل منع انتشار الديمقراطية بها.

فشل دعم المعارضين السوريين، وعدم السيطرة على عملية انتقال السلاح من الأراضي التركية إلي سوريا ، فضلا عن دعم الإخوان وقيادتهم وإغضاب القاهرة وحلفائها في الخليج، بالتوازي مع التوتر مع الولايات المتحدة كانت العناوين الكبيرة لفشل سياسة داوود الخارجية -- أحمد عبد ربه.

ليست العلاقة بالغرب بأفضل حال، فرغم سعي أنقرة الدؤوب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل حتى الآن! ورغم ذلك مازالت أنقرة تسعى إلى الانضمام بحلول عام ٢٠٢٣ لتحقق المعادلة الصعبة فى تاريخ الجمهورية فى ذكرى تأسيسها المئوية بالجمع بين البعد الهوياتي الإسلامي والضرب في العمق الغربي. هذا ويعد تعيين وزير الخارجية الحالي تأكيد على هذا المنحى فالرجل كان مسئولا بالأساس عن ملف الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية السابقة ومعروف بتوجهه الغربي وبعلاقاته القوية مع المسؤولين الأوروبيين، لكن هل هذا يكفي؟

***

في مقابلاتي بتركيا مع عدد من الأكاديميين الداعمين أو المحسوبين بشكل غير مباشر على الحزب الحاكم أبدوا ثقة في نجاح الهدف بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بحلول عام ٢٠٢٣ ومدخلهم في ذلك اقتصادي بحت، فقال أحدهم ممن رفض التصريح باسمه إذا ما قررت اقتباس كلامه للصحافة (لكنه سمح لي بذكر اسمه فقط إذا ما نشرت دراستي فى دورية علمية وعلى احترام رغبته)، قال "رغم أن الهوية الإسلامية في تركيا تزعج الكثير من صناع القرار فى أوروبا إلا أنهم حينما يجدوننا ضمن أقوى عشرة اقتصاديات عالمية سيرضخوا للطلب لأسباب مصلحية بحتة". وعلى العكس من ذلك يرى الدكتور نهاد على أوزكان وهو جنرال متقاعد بالجيش التركي وباحث فى العلاقات الدولية ومتخصص فى شئون الإرهاب والشرق الأوسط ويحمل رؤية نقدية لأردوغان وسياساته أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لن يكون أمرا سهل المنال، فسياسات أردوغان الداعمة لحركات الإسلام السياسي لن يتم التسامح معها ببساطة فى الغرب، ويرى أوزكان أنه في خلال ثلاث سنوات لو لم تتمكن تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فعلى أردوغان أن ينسى الأمر.

لعل مستقبل العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي لا يمكن إدراكه بالاعتماد على فهم كيان الاتحاد الأوروبي فحسب دون فهم الحسابات المعقدة لأعضائه فرادى -- أحمد عبد ربه، فمثلا في تقديري وبحسب حديثي مع قطاع كبير من الأكاديميين المهتمين بالشأن الأوروبي في تركيا وبغض النظر عن تأييدهم أو اعتراضهم على أردوغان فإن العلاقات التركية الألمانية قد تكون بعدا هاما في فهم مستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فألمانيا التى يعيش بها عدة ملايين من الأتراك المهاجرين لديها توجس كبير من توجهات تركيا الإسلامية ومدى تأثيرها على الداخل الألماني، وأثناء تواجدي هناك كانت فضيحة تجسس المخابرات الألمانية على عدد من المسؤولين الأتراك في الداخل والخارج تلقي بظلالها على المشهد التركي وتوضح مدى التوجس لدى الألمان خاصة والأوروبيين والأمريكان عامة من سياسات أردوغان، ولكن وكما قال أحد من التقيتهم متهكما "وهل تعتقد أن تركيا لا تفعل الأمر مثله مع ألمانيا؟" وهو ما يوضح الألغام الكثيرة المحيطة بالقضية.

***

تبدو تركيا في هذه الأيام طامحة بشدة للجمع بين الحسنين، دولة ديمقراطية ذات هوية إسلامية لها امتدادات استراتيجية فى العمق العربي والإسلامي وعضوية في الاتحاد الأوروبي لانهاء ميراث طويل من الصراعات القديمة ولتقديم تركيا في عهد أردوغان باعتبارها نقطة وصل ثقافية واقتصادية وسياسية بين الشرق والغرب، بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي فهل تنجح هذه المساعي؟

فى تقديري هذا المسعى يبدو صعبا فى الوقت الراهن، فتدهور العلاقات المصرية التركية وفتور العلاقات مع دول الخليج العربي على هامش دعم الإخوان، فضلا عن فشل رهان ودعم تركيا للمعارضة السورية مع خروج تنظيم داعش عن السيطرة، مع عدم ارتياح الغرب لسياسات أردوغان ذات البعد الهوياتي الإسلامي تجعل الجمع بين البعدين أمرا صعبا على الأقل في الوقت الراهن ويتطلب من أردوغان وداوود أوغلو تنازلات مؤلمة ومرونة استراتيجية ناحية مصر ودول الخليج وإسرائيل من ناحية ونجاحات اقتصادية مبهرة تجبر أوروبا على اتباع منهج براجماتي مصلحي في التعامل مع ملف العضوية التركية، فضلا عن أوضاع أمنية مستقرة داخليا وإقليميا من ناحية ثانية، فهل تتحقق تلك المعادلة الصعبة في غضون السنوات القليلة القادمة؟ هل تنجح سياسات تركيا الاقتصادية؟ هل سيتمتع أردوغان وداوود أوغلو بالمرونة اللازمة؟ إجابات هذه الأسئلة ستحدد وجهة تركيا القادمة، فإما نجاح مبهر في القيام بحلقة الوصل بين الشرق والغرب أو فشل ذريع في كلا الملفين