هذا المقال بقلم آمال قرامي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
التنافس على أشدّه بين المرشّحين والمرشّحات للانتخابات التشريعية، ولمنصب رئاسة الجمهورية ولا غرابة في ذلك فبعد سنوات الامتثال لسياسة "تجفيف المنابع" بلغ "نهم" التونسيين مداه، وصار الجري وراء المناصب الهواية المفضّلة لعدد من التونسيين، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، والكهول والشيوخ والشباب، والمنتمين إلى معسكر اليمين أو اليسار. وللمرّة الأولى تتقلّص بعض الفوارق الطبقية، والجندرية، والجهوية، والعمرية....
غير أنّ هذا الحراك النسبيّ على مستوى مختلف البنى لم تصاحبه ديناميكيّة في مجال الفكر السياسيّ غاية ما لدينا صراع بين الخصوم: الفاعلين الجدد واللاعبين "السياسيين" المعروفين بحنكتهم، ومعنى ذلك أنّ الجدل بدل أن يكون حول البرامج والتصوّرات وإنتاج الأفكار الجديدة صار صراعا حول الأشخاص -- آمال قرامي. هي أنوات تتصارع من أجل البقاء والهيمنة على المسار الجديد متخذة أساليب مهترئة للتأثير على "العوام". فالجميع يبرّر ترشّحه بأنّه علامة على حبّه للوطن، ورغبته في خدمة التونسيين، وتصحيح المسار... وفي أوقات الوجع يغدو استحضار البعد الكرنفالي ضروريّا للخروج من الأزمة.
***
ما أشبه استعدادات المرشّحين والمرشّحات للانتخابات باستعدادات المشاركين والمشاركات في الكرنفال. فالجميع يتهافت على الحلاّقين والحلاّقات: يصبغون، ويغيّرون التسريحات، ويتردّدون على بائعي العطور، ومحلاّت الملابس، والنظّارات، يتّبعون حميات قاسية، علّهم يبرزون في مظهر يليق بالمناصب التي يأملون الوصول إليها.
يتقن أغلب هواة السياسة، والمتطفّلين عليها الرقص على الحبلين، والتلاعب بالوقائع والتاريخ والمشاعر، ويتفنّنون في ازدواجية الخطاب والفعل -- آمال قرامي، يصيحون، ويهتفون، ولا يتحكّمون في مشاعرهم، و"ينفلتون"، ويتحرّرون من القيود، والضوابط الأخلاقية، والقيم فيسعون إلى الإطاحة بخصومهم متوخّين في ذلك أساليب شتّى منها التراشق بالتهم، والسبّ، واللعن، وإفشاء الأسرار، وتشويه السمعة....
ومع اقتراب الموعد الانتخابي يتحوّل المشهد السياسي إلى كرنفال شعبيّ تختلط فيه المعايير، ويتخلخل فيه نظام التراتبية ممّا يجعل الزمن الكرنفالي يعبث بالزمن الرئيس. فالحاضر: حاضر الثورة يغدو ماضياً والماضي يحلّ بقوّة ويصبح حاضراً، وسرعان ما تذوب الفوارق بين المنظومة القديمة التي أسّسها "بن عليّ" ومحاولات بناء منظومة جديدة تتلاءم مع "استحقاقات الثورة" . إنّ الجديد، بعد أن تحوّل إلى يوتوبيا، وعجز عن تعطيل المستقرّ، والمتعارف عليه وإطلاق طاقة جديدة بات يتفاعل مع القديم يستلهم منه الدروس والعبر بل إنّه بات يوفّر له فرصة جديدة للحياة، والفعل في الواقع.
وليس أمام عامة التونسيين إلاّ السخرية، والضحك، وإنتاج الملحة أو "الحنين إلى الزمن الجميل: زمن الزعيم بورقيبة أو زمن صانع التغيير بن عليّ" فهذه الأساليب تتحوّل إلى سلاح يواجه به المواطن/ة واقعا محبطا للآمال مخيّبا للتوقعات والانتظارات تضاعفت فيه العمليات الإرهابية وانتشرت فيه التجارة الموازية، وصار التهريب المعوّل عليه، وتدحرجت فيه المقدرة الشرائية، وتفاقم فيه عدد المعطلين عن العمل والمهمّشين... يكفي أن نتابع تفاعل التونسيين على صفحات الفايسبوك لنتبيّن أنّ الثقافة الشعبيّة قادرة على تفكيك الخطاب السلطوي الذي يستمر في أثواب جديدة، فأحادية الرأي التي تصرّ على عدم الإنصات إلى الأصوات الجديدة لازالت حاضرة نجدها لدى عدد من السياسيين والمثقفين والإعلاميين وغيرهم. وهذه الأحادية التسلطيّة تُواجه بصور الفوتوشوب، وبممارسة التحرّر اللغوي، والتعليقات الساخرة، والأمثال، والحكم.
***
خيّب أغلب الفاعلين في المجال السياسي آمال التونسيات والتونسيين، وما استطاعوا تحويل المشهد السياسي إلى عرس يحتفى فيه 'بالديمقراطية الناشئة'، وعجزوا عن حفز التونسيين على المشاركة في الانتخابات القادمة والاحتفال بمراسمها. كما أنّ السياسيين لم يستطيعوا أن يستثمروا دلالات الكرنفال العميقة المتمثّلة في بلورة رؤية جديدة للسياسية وتجسيد نظرة جديدة إلى الحياة والكون. وحين تُعيي الحيلة السياسيين يغدو مقترح راشد الغنوشي: المطالبة بترشيح رئيس توافقي يجنّب البلاد الحرب الأهليّة الحلّ الممكن، في نظر عدد من السياسيين.
ولا يذهبن في الاعتقاد أنّ المسار الانتقالي بات مهدّدا نظرا إلى هذا الخواء الفكري وقلّة حيلة الفاعلين السياسيين الجدد، والقبح الذي نعاينه منذ مدّة -- آمال قرامي. فالمجتمع المدني لا يزال يعمل ويتحرّك مؤمنا برأي "باختين" حين اعتبر الكرنفال فعلاً خلاّقاً، ومنتجا ومولّدا قادرا على عرض واقع مغاير، وابتكار نظام جديد، وولادة إنسان جديد بإمكانه أن يتجه إلى الأمام.