هذا المقال بقلم ابراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
الكلمات تعبر عن الأفكار وتنقل المعاني. التوجه بالأفكار والمعاني إلى جمهور المتلقين في مجتمع ما هو الخطاب العام السائد والذي يشكل الوعي في ذلك المجتمع. لذلك، فليس كالكلمات أثر في النقاش العام وفي خلق القيم أو في نزعها عن الناس والأحداث والأشياء. من هنا تكتسب المفردات المستخدمة في الخطاب العام الموجه إلى جمهور المتلقين، أو المتداولة في الأحاديث التي تجري بين الناس على ضوء هذا الخطاب، تكتسب هذه المفردات أهمية كبرى لأن فيها إيحاءات للمتلقين بقيم يعطونها للأشخاص والأحداث وبمواقف يتخذونها منهم ومنها.
معاني الكلمات ليست مطلقة، وللمفردات معان متعددة تتغير مع الزمان وتتطور مع المحامل المستخدمة فيها. ومع ذلك، فإن ثمة حدودا لغوية وقانونية وأخلاقية لاستخدام المفردات. الحدود اللغوية مستمدة من نفس تغير اللغة وتطورها، والحدود القانونية مستقاة من المعاني التي يحددها القانون للمصطلحات، والحدود الأخلاقية مستخلصة من المقاصد التي يراد تحقيقها باستخدام هذه المفردة أو تلك، وهي مقاصد ينبغي أن تحترم الحدود اللغوية والقانونية معا. أي خروج عن هذه الحدود عند استخدام المفردات يدخل اللبس في نفوس المتلقين، ويشوه الوعي والنقاش العام، ويحول دون التصدي السَوي لمشكلات المجتمع، بل ويهدد تماسكه.
***
الأمثلة على المفردات الملتبسة في الخطاب العام المصري عديدة، والتباسها يحول دون أن يتفق الناس على حد أدنى من المعاني يكون أساسا للتفاهم بينهم، علاوة على تشويهها للنقاش العام.
خذ مثالا كلمة "المتهمين". في وسائط الاتصال، تجد متكررة كلمة الإشارة إلى "المتهمين" الذين ألقي القبض عليهم هنا أو هناك. ليس خافيا أنه في الأغلبية الساحقة من الحالات، هؤلاء "المتهمين" ليسوا متهمين بل هم مشتبه بهم لا يصبحوا متهمين إلا بعد التحقيق معهم وتوجيه قرار الاتهام إلى كل واحد منهم. بشاعة ما ينسب إلى هؤلاء الأفراد ليست مبررا لإطلاق مصطلح "المتهمين" عليهم. إحترام اللغة والقانون يحتِم ذلك وأيا كان شعور من يكتب ومن يتلَقى تجاه الأفراد المشتبه بهم. الإشارات إلى "ثأر" الدولة لضحاياها الذين قتلتهم غدرا جماعات العنف المسلح هي مثال آخر مؤسف على استخدام المفردات الملتبسة -- ابراهيم عوض. الدولة لا تأخذ بثأر، فهي ليست تنظيما بدائيا، بل هي مؤسسة تجتهد للتغلب على البدائية ونشر قيم الحداثة. الدولة، بتصديها لجماعات العنف المسلح التي تعتدي على حياة ممثليها، تقيم القانون وتفرض سلطتها، وتمارس حقها في استخدام العنف المشروع ضد كل الخارجين على النظام العام.
هذه هي المفاهيم التي يتوقع من الدولة ومن وسائط الاتصال أن تبثها في الناس، وهي بها تنشر الثقافة السياسية الحديثة، بل والثقافة الحديثة في أبسط معانيها، وترتقي بالنقاش العام، وتعزز شرعية الدولة ذاتها. اعتبار أن الدولة تعتنق نفس المفاهيم المتخلفة لمجموعات من الأفراد ينزل بالدولة إلى نفس مستوى هذه المجموعات ويقوِض من شرعيتها، بينما هي في حقيقة الأمر تمارس حقا شرعيا تماما لها بتصديها للمعتدين على ممثليها.
مثال آخر هو ما درج المسئولون الحكوميون، وما درجت وسائط الاتصال عليه من الإشارة إلى "الهجرة غير الشرعية"، وإلى "المهاجرين غير الشرعيين، على الرغم مما في مصطلح "غير الشرعي" من إيحاء بأن مثل هذه الهجرة جريمة، مبرر نعت من يمارسها بأسوا أنواع النعوت والتعامل معهم بأقصى أشكال القسوة، ومشروعة مقاومتهم بالعنف الذي يليق بالمجرمين، حتى وإن بلغ هذا العنف منتهاه. ليس هذا مجال الحديث عن هذا الشكل من أشكال الهجرة ومسبباتها، ولكن ربما تكفي الإشارة إلى أن مصر طرف في "الاتفاقية الدولية لحماية كل العمال الهاجرين وأفراد عائلاتهم"، بل إنها أول دولة صدّقت عليها، وهذه الاتفاقية صريحة في إطلاقها مصطلح "الهجرة غير المنظمة" على ما درج المسئولون ووسائط الاتصال عندنا على تسميته "الهجرة غير الشرعية"، وفي تأكيدها على أن هذا الشكل من أشكال الهجرة ليس جريمة -- ابراهيم عوض.
***
والمراقب يتساءل عن المعنى الذي يراد منحه لبعض المفردات "الكبيرة" المستخدمة بإكثار في الخطاب العام. دعك من أن الإكثار يفقد المفردات معانيها ويذوِب مداليلها. ولكن ما هي الدلالات المقصودة من الإفراط في استخدام كلمات مثل "القومي" أو "القومية"و "العظيم" أو "العظيمة" -- ابراهيم عوض؟ هل المقصود "بالمشروع القومي" هو المشروع الكبير هائل القيمة، أم أنه المشروع الذي انعقد عليه اتفاق الكافة، أم هو المشروع الذي لا تقبل مناقشة له؟ هذه كلها معان يمكن استخلاصها من إطلاق "القومي" على هذا المشروع أو ذاك. إن كان المقصود هو "الكبير هائل القيمة" فلماذا لا تستخدم هذه المفردات صراحة؟ أما إن كان أيا من المعنيين الآخرين، فإن الاستخدام يكون في غير محله مطلقا. مثال آخر على استخدام مفردة "القومي" هو إطلاقها على عيد هذه المحافظة أو تلك. هل أي من الدقهلية أو الغربية أو المنيا أو أسيوط أمة، لكل منها قوم خاصون بها، لكي يكون لكل منها عيد قومي؟ أليس "عيد إقليمي" أو "عيد المحافظة" كافيين"؟ استخدام المفردة في غير محلها ابتذال لها وإفراغ لها من مضمونها. أما "العظيم" و"العظيمة" فلقد خفَ في الشهور الأخيرة استخدامهما. في شهور سابقة كنت تقرأ في الصفحة الواحدة في الجريدة ثلاثة أو أربعة استخدامات لمفردة "العظيم" منسوبة إلى الشعب، بما يكوّن عبارة "الشعب العظيم" أو "شعب مصر العظيم"، وتستمع إلى مثلها على ألسنة بعض المسئولين. "الشعب" و"شعب مصر" كافيين تماما عند الحديث عن خدمة الشعب والإخلاص له. ألن يخدم الشعب ويخلص له إن لم يكن عظيما؟ في كل الأحوال خدمة مجموع الشعب واجبة على المسئولين الذين أنابهم عنه وكل ما عدا ذلك لا يليق. "العظمة" نفسها تفقد معناها من فرط تكرارها. وربما كان الكفّ في الشهور الأخيرة عن استخدام العبارة خير دليل على ذلك.
***
أمثلة أخرى مستخرجة من وسائط الاتصال هي "القبض على ستة أقباط" و "أمر النيابة بالقبض على "داعية إسلامي" للتحقيق في اشتراكه في قتل شقيقين على خلفية خصومة ثأرية". أليس هؤلاء "الأقباط" مواطنين؟ القبض عليهم يكون لخروجهم على النظام العام، إن كانوا قد خرجوا، وليس باعتبارهم أقباطا أو مسلمين -- ابراهيم عوض. الإشارة إليهم كمجرد "أقباط" تمييز لهم عن مجموع المواطنين وهو المنطلق للتمييز ضدهم. وهل يمكن أن يكون "داعية إسلامي" حقيقي مشتبها في اشتراكه في ارتكاب جريمة قتل؟ هذا تناقض صارخ وانتقاص من الاحترام الواجب "للداعية الإسلامي" وهو يجعل القارىء لا يلتفت إلى العبارة في المرة التالية التي تقع عيناه عليها.
الخطاب العام يشكل الوعي المشترك. المفردات الملتبسة المستخدمة فيه، والاصطناع في استخدامها، والخروج عن الحدود العامة للمعاني المتفق عليها للمفردات، عقبات في سبيل التفاهم والتماسك المجتمعيين.