هذا المقال بقلم آمال قرامي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لا يزال راشد الغنوشي يردّد في أكثر من لقاء تلفزي أو حوار صحفي بالداخل أو بالخارج أن لا سبيل إلى إنجاح التجربة التونسية إلا ّ باعتماد التوافق. فالأنموذج التونسي، حسب رأيه، تأسّس على التوافق، والوفاق، وضمان الوحدة الوطنية، والتعايش بين جميع أطياف المجتمع التونسي. وفي هذا السياق يلحّ الغنوشي على أهميّة اختيار رئيس بالتوافق بين جميع الأحزاب حتى يتمّ إنقاذ البلاد من 'الحرب الأهليّة'.
وبالرغم من الانتقادات التي وجّهت إلى حزب النهضة بشأن فرض خيار الرئيس التوافقي فإنّ رئيس الحزب لا يملّ ولا يكلّ محاولا في كلّ مرّة إقناع اللاعبين السياسيين بمحاسن هذا التوجّه واعدا بتشكيل حكومة إئتلاف وطني يشترك فها الجميع دون إقصاء. وما من شكّ في أنّ هذا المقترح يستحضر أشكال إدارة الحكم في العصور الإسلامية، فالنخب هي التي تدبّر وما على العوام إلاّ الاتّباع، ويعتمد منطق الغنيمة إذ تتحوّل تونس إلى "كعكة" يتسابق الجميع من أجل التهام أكبر جزء وترك الفتات للآخرين. ونظرا إلى أنّ موازين القوى أثبتت وجود حزبين قويّين: حزب نداء تونس وحزب النهضة فإنّ الغنوشي يقترح على الباجي قائد السبسي أن يستجيب لعرضه :"منّا حكم ومنكم حكم" ولنختر الرئيس القادم بالتوافق.
***
إنّ تأكيد حزب النهضة على أهميّة التوافق له دلالات متعدّدة منها: التخوّف من تعدّد الأصوات السياسية التي تمتلك تصوّرات متنوعة لإدارة الحكم وكما هو معلوم فإنّ الاختلاف قد يؤدي إلى الخلاف الذي قد يتحوّل بدوره إلى 'فتنة'، وبناء على ذلك فإنّ التحكّم في المشهد السياسي لن يكون إلاّ بالتفاوض بين الأحزاب الكبرى، والتوصّل إلى التوافق، ومعنى هذا أنّ ثنائية الأغلبية / الأقلية، والتخوّف من التعدّد لا يزالان يسيطران على فهوم قيادي حزب النهضة.
ثمّ أنّ آلية التوافق هي الورقة التي يعتمدها حزب النهضة في التسويق لنجاحه في المرحلة الانتقالية. يكفي أن نتتبّع الخطاب الذي يقدّمه سياسيو النهضة في المحافل الدولية لندرك أنّ التوافق صار المصطلح الأكثر تداولا على ألسنتهم فهو العصا السحرية آمال قرامي التي حقّقت النصر، والخلاص، ويتناسى قياديو النهضة أنّ آلية التوافق التي اعتمدت في كتابة الدستور استطاعت أن تحسم الجدل حول عدّة قضايا ولكنّ التوافق ظلّ شكليّا ووظيفيّا وغير معبّر عن قناعة راسخة، أي أنّه توافق هشّ.
***
ومن بين أسباب الإلحاح على اعتماد آلية التوافق الرغبة في لجم المعارضة. فبعد التوافق حول مرشّح، وحكومة وطنية يشارك فيها الجميع لا مجال للحديث عن أحزاب معارضة قويّة، ولا مجتمع مدني يقف بالمرصاد للسياسات التي لا تتلاءم مع استحقاقات الثورة. إنّها تجربة حكم "سلمية" بلا احتجاجات...
وبما أنّ اللغة مؤسسة ثقافية بالغة الأهمية فإنّ توشيه الخطاب النهضوي بعبارات التوافق، والوفاق، والرئيس التوافقي... توحي للغرّ بأنّ الحزب سيعيد "العروة الوثقى' وسيؤسس الأمة المنسجمة التي يتعايش فيها الجميع، والحزب إذ يلحّ على ذلك يريد تطهير ذاكرة التونسيين من وقع سياسة التقسيم (الأغلبية، الصفر فاصل، الإسلاميون/العلمانيون، أنصار الهويّة/ الفرانكفونيون...) التي اختارها حزب النهضة عندما نجح في الانتخابات الفارطة، والتي أفضت إلى اتساع رقعة الاستقطاب. بيد أنّ اجترار كلمات 'التوافق، الوفاق ...لن تؤدي إلى النسيان: نسيان تجربة حكم النهضة والفرقة، وسياسة التفريق وتقسيم المجتمع إلى معسكرين، وهو ما أدّى إلى خروج الترويكا من الحكم.
**
وعلاوة على ما سبق أثبتت تجربة الترويكا صعوبة حصول التوافق بين أحزاب لا تتبنّى نفس المشروع ولا تملك نفس التصوّرات بشأن الحريات والحقوق آمال قرامي فأنّى لمن آثر الاستحواذ على الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة أن يدّعي اليوم أنّه رسول المحبّة وضامن الوحدة الوطنية؟
ونظرا إلى تعوّد حزب النهضة على الاتكّال على تجارب الآخرين و"سرقة" مجهودهم (حملة الانتخابات انتحلت طريقة حملة أردوغان، واعتمدت صورا دون إذن...) فإنّ السطو على التوافق، والوفاق، واستبدال شرعية الانتخابات بشرعية توافقية وغيرها من المصطلحات التي اعتمدتها المعارضة بات أمرا واضحا هدفه إظهار الحزب في صورة الحزب الجامع، المسامح الكريم الذي يعفو عن التجمعيين، والمفسدين،.... أمّا خصومه فإنّه يرسم لهم صورة العدّو، المنتقم، الجبّار، الدكتاتور...
لم يستطع حزب النهضة القيام بمراجعات جوهرية تخبر عن قبول مفاهيم جديدة في الحكم تقوم على التعددية الفعليّة، والشفافية والحوكمة، والمساءلة والمحاسبة،... بقيت الأيديولوجيا ذاتها وما تغيّر هو تسربل القيادات في أثواب جديدة قد تبهر الغرب، وخاصّة الولايات المتحدة الأمريكية آمال قرامي "العرّاب" ولكنّها لن تنطلي على من درس واستقصى 'فليست الخبر كالمعاينة '.