هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لا أصدق أن أحدا عاقلا لايزال يعتقد أن الربيع العربي حدث عادي أو انحراف بسيط في مسيرة التطور في المنطقة العربية. سمعت أن البعض يظهر بين الحين والآخر على شاشات الفضائيات ليؤكد أن لا شيء ذا أهمية تغير في مصر أو خارجها. يزعم أن ما تغير سطحي وتافه وما هي إلا جهود بسيطة وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. بمعنى آخر، تعتقد هذه الجماعة الإعلامية، أن ما تغير سيعود إلى ما كان عليه قبل نشوب ثورات هذا الربيع. لا أصدق أنه يوجد أفراد منشغلون بهموم أمتهم وأبنائهم لا يشعرون بحجم وعمق التغيرات التي مست معظم أنحاء العالم العربي، وها هي الآن تؤثر في البلاد الاسكندنافية ودول أخرى في أوروبا الغربية، وأثرت بجلاء وعمق في تركيا وإيران.
***
لا أبالغ في القول بأن معظم التغير الذى أحدثته ثورات الربيع العربي لم يقع في الحال ولكنه وقع في مراحل لاحقة وبخاصة في المرحلة الراهنة جميل مطر. ليست قليلة، أو بسيطة، تطورات الشهرين الأخيرين وبخاصة تداعيات تشكيل حلف الخمسين أو أكثر لمحاربة تنظيم متطرف لم تتجاوز التقديرات عن عدد أعضائه في أي تحليل نشر عنه العشرين إلى الأربعين ألفا، وهو عدد يقل كثيرا عن عدد المتفرجين اللازم لشغل مقاعد جناح واحد في استاد لكرة القدم متوسط السعة. أصداء التنظيم والحلف المناهض له ترددت في كل مكان من العالم، من استراليا في أقصى جنوب الشرق إلى فنزويلا وبوليفيا في أقصى الغرب. خوف وقلق لا يبررهما بضعة صور وأفلام بعضها لعمليات ذبح رهائن وأخرى لمقابر جماعية، ولا تبررهما بالتأكيد هذه الحملة الإعلامية التي رافقت صعود هذا التنظيم وتألقه في الفضائيات.
داعش بحد ذاته ليس الدليل الأقوى على مدى التغيير نتيجة ثورات الربيع العربي. تكفى نظرة هادئة، ولكن ثاقبة، إلى خريطة متعددة التخصصات للعالم العربي، لنتعرف على هذا المدى. تكشف هذه النظرة الهادئة عن سباق محموم بين واقع يتآكل وواقع جديد ينشأ.
***
ديموغرافيا، انتقلت أعداد غفيرة من السكان في خلال العامين الأخيرين بأكثر مما انتقلوا في قرون وفي أقاليم عديدة. هاجر سوريون من العرب والأكراد، إلى دول اسكندنافية بأعداد كافية لتحدث تغييرا ملموسا في السياسات السكانية لهذه الدول. وخرجت من سوريا أفواج من اللاجئين كافية وحدها لتغيير الطبيعة الديموغرافية لدول مثل لبنان والأردن أو كافية لإثارة أزمة سياسية حقيقية كما هو حادث في تركيا، ومعضلة إنسانية وعسكرية لحلف الأطلسي. أما الداخل السوري فحدث عنه ولا حرج، حدث عن طائفة علوية انخفض عدد الشبان فيها إلى مستويات تهدد مستقبل الطائفة وبالتالي مستقبل السياسة والمجتمع والجيش في سوريا. حدث أيضا عن نزوح داخلي دمر العديد من المعادلات والمسلمات الديموغرافية في سوريا.
***
اقتصاديا، تضررت الغالبية العظمى من الدول العربية، وبخاصة دول الربيع العربي، بسبب أعمال الفوضى وانسحاب المؤسسات الأمنية وتدخلات قوى خارجية. هذه القوى استفادت من إثارة مزيد من الفوضى لانهاك الثورة والثوار واخضاع إرادة المؤسسات البيروقراطية والسياسية للخارج. كان، ومايزال، واضحا أن هذه الأطراف الخارجية ركزت جهودها للانتفاع من الانحدار الاقتصادي لتحقيق هدفين: ضرب الثورات أو التحكم فيها أو إضعاف فرص نشوبها من جديد. أما الهدف الثاني فهو احتلال مواقع نفوذ داخل المؤسسات الجديدة في الدول التي حققت درجة أو أخرى من الاستقرار.
***
سياسيا، لا وجه شبه كبير بين الأوضاع السياسية السابقة على نشوب الثورات والأوضاع السياسية الراهنة في دول الربيع. ولكن أيضا لا شبه إلا في الشكل بين الأوضاع في السابق والراهن في الدول العربية التي لم تنشب فيها ثورات. ينكرون أن شيئا أساسيا تغير بينما واقع السياسات الخارجية والأمنية في كل تلك الدول لا يشبه في كثير أو قليل واقع ما قبل ثورات الربيع. أظن لا أحد يستطيع اقناعنا بأن الدول العربية التي لم تنشب فيها ثورة من ثورات الربيع تعيش الآن وتتصرف كما كانت تعيش وتتصرف قبل أن تموج المنطقة بالثورات وأصدائها.
لا شيء أبلغ في التعبير عن التغيير الذي لحق بالجغرافيا السياسية للعالم العربي من متابعة تطور السباق على رسم خريطة جديدة للمشرق العربي. كذلك فإنه عند تقدير أهمية التغير الجيوستراتيجي في المنطقة لا يمكن اغفال خطورة الاوضاع على الحدود في كل من العراق وسوريا، أو اغفال مساحات الغزو والكر والفر في كل من اليمن وليبيا. انا شخصيا لا أستهين بحيوية فئات عديدة في لبنان خاصة وكذلك في مصر والأردن تبحث عن قارئ فنجان يعينها على قراءة المستقبل.
***
أسأل كما يسأل الكثيرون من المهتمين بالنظام العربي ومنظومة القيم والمبادئ التي حكمت نشأته، لماذا لم يحدث بعد التغيير الملموس في هياكل النظام مثلما حدث في أنظمة الحكم في دول الربيع العربي؟
لم تأت إجابة على السؤال من أي جهة أكاديمية أو مؤسسية، وأجد العذر لكل علماء السياسة والعاملين في حقل العمل العربي المشترك، فكما أن هناك في دول الربيع العربي من استمر حتي يومنا هذا ينكر نشوب "ثورة ربيع" ، أو يعتبرها حالة فوضوية أو في أحسن الفروض مؤامرة كونية لمنع نهوض العرب وتوحدهم، هناك أيضا على صعيد العمل العربي المشترك من يستهين بتداعيات ثورات الربيع. يقدم الدليل باستقرار دول أكثر عددا لم تتعرض لهزات وما زالت حكوماتها تحكم، ومازالت صناديقها مستمرة في تسديد أنصبتها في موازنات الجامعة، الأمر الذي يعني في نظر هذا الفريق أن الجامعة محصنة ضد ثورة تطيح بهياكلها.
يتعامى هؤلاء، كما يتعامى أقرانهم من المسئولين في دول لم تنشب فيها ثورة ربيع، عن رؤية التغير الأشمل والجذري الذى وقع في جغرافية العالم العربي وديموغرافيته وأنظمة وسياسات الحكم وأمزجه الشعوب وتوازنات طوائفها.
***
نعيش تداعيات وتوابع الربيع العربي وفصول جديدة منه، وبعضنا ينكر، ولن ينفع الإنكار. كنت أتحدث عن أحوالنا العربية مع سياسي مخضرم فاجأني بالسؤال: هل تعتقد أن القائمين على أمر الجامعة العربية يصدقون أنهم على رأس مؤسسة تتمتع بأي درجة من درجات الشرعية. لقد فقدت الجامعة العربية ما تبقى من شرعيتها مع نشوب ثورات الربيع العربي. واستطرد قائلا: أنظر حولك. لدينا الآن دول فاشلة أعضاء في الجامعة العربية، أي دول لا تحظى برضاء أو احترام شعوبها والمجتمع الدولي. ولدينا دول قامت فيها بعد الثورات حكومات مازالت منشغلة باستكمال شرعيتها وسط مصاعب جمة وشكوك شعبية لأسباب متنوعة. ولدينا دول اهتزت شرعية أنظمتها الحاكمة حتى الأعماق يوم خرج الملايين الى الشوارع في دول عربية أخرى يطالبون بعيش وحرية وكرامة وعدالة. هذه الدول لم تستعد بعد استقرارها. ولدينا دول غير واثقة تماما من قدرتها الذاتية على صد غزو عصابات التطرف الديني والإرهاب السياسي.
****
عاد يسأل: هل يمكن أن يكون لجامعة إقليمية، هكذا حال معظم أعضائها، أي حق في شرعية الوجود أو الاستمرار؟