إبراهيم العيسوي يكتب عن "فاجعة الجامعة" وما أصاب الجامعات المصرية بعد الثورة

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
إبراهيم العيسوي يكتب عن "فاجعة الجامعة" وما أصاب الجامعات المصرية بعد الثورة
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

كاتب هذا المقال، إبراهيم العيسوي، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي،وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

(CNN)-- ماذا تبقي من فكرة الجامعة التي قدمها طه حسين منذ 76 عاماً في "مستقبل الثقافة في مصر" بعد  المصائب التي حلت بالجامعات المصرية في أعقاب  تحولات النظام السياسي منذ 3 يوليو 2013، وكادت تدمر  هذه الفكرة  تدميراً؟ وإذا كانت فكرة الجامعة قد غابت عن ذلك النفر من أهل السلطة الذين لم يعرفوا الطريق إلى الجامعة ، ومُحيت من أذهان بعض القيادات السياسية والجامعية الذين تعلموا في الجامعات وعَلَّم بعضهم فيها، فمن المفيد تذكيرهم بها علهم يرجعون عما ارتكبوه بحق الجامعة من ضرر جسيم.

من أقوال طه حسن في بيان فكرة الجامعة "إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفاً بل يعنيه أن يكون مصدراً للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضراً بل يعنيه أن يكون منمياً للحضارة. فإذا قصرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه والإنسانية التي تعمل لها". ومنها أن "معاهد العلم (بالجامعة) ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شيء وبعد كل شيء بيئات للثقافة بأوسع معانيها وللحضارة بأوسع معانيها أيضاً". ومنها أن "ما تحتاجه الجامعة لتنهض بهذا القسط من التعليم والثقافة هو الاستقلال الصحيح الكافي (مع) وجوب الاحترام الفعلي لهذا الاستقلال"، وهو ما يعني "أن تستقل الجامعة بشئونها المالية في حدود القوانين العامة بعد أن يقر البرلمان ميزانيتها في كل عام"، و "أن تستقل الجامعة بشئون العلم والتعليم استقلالاً تاماً".

أَعلم أن الجامعة لم تكن في أفضل أحوالها على امتداد عقود كثيرة، وأن تدخلات السلطة التنفيذية قد نالت من استقلالها، وانتهكت حقوق الطلاب والأساتذة في الكثير من الحالات. وأُدرك أن حال التعليم والبحث العلمي بالجامعات قد أصابه الكثير من التدهور وأن الجامعة صارت أبعد ما تكون عن نموذج طه حسين. ولكني أعلم أيضاً أن نضال الأساتذة والطلاب لم يتوقف من أجل الحفاظ على استقلال الجامعة، وكان من أبرز نتائجه نجاح جماعة 9 مارس في إبعاد الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية. وكان من مكاسب ثورة يناير 2011 حصول الطلاب على حقهم في تشكيل اتحاداتهم بحرية أتاحت تمثيل مختلف الاتجاهات الطلابية، وانتزاع أعضاء هيئة التدريس حقهم في الحكم الذاتي من خلال إقرار مبدأ انتخاب القيادات الجامعية وتفعيله.

وقد كانت هذه بدايات جيدة يرجي أن تتبعها خطوات إضافية تدعم استقلال الجامعات إدارياً وعلمياً ومالياً، وتشيع حرية الفكر وتنعش أجواء الثقافة وتربط الجامعات بقضايا المجتمع وتوثق علاقة أساتذتها وطلابها بالشأن العام. ولكن هذا الرجاء قد خاب عندما تغلب منطق القوة على منطق الديمقراطية في التعامل مع الخلاف السياسي أثناء حكم الإخوان، وبعدما قُسِّم الشعب إلى شعب الموالاة للسلطة الجديدة وشعب الأعداء الذي عارض الانقضاض على المسار الديمقراطي في 3 يوليو 2013، وبعدما تمادت السلطة الجديدة وحلفاؤها في وصم المعارضين والتشهير بهم من خلال "الأذرع الإعلامية" التي ألحت على تنشيطها، وفي القبض على عشرات الآلاف من المتظاهرين والمعتصمين وقتل وإصابة بضعة آلاف أخرى، وفي تعريض الكثيرين منهم لأحكام في غاية القسوة بعدما وجدت في مجتمع القضاة من يجاريها في أهوائها. وبعدما تحسنت مرتبات الأساتذة في عهد مرسي، فإنها تعرضت للنقصان مؤخراً في بعض الجامعات في سياق "التبرعات الإجبارية" لصندوق تحيا مصر.

لقد أطاحت السلطة بفكرة الجامعة بدعوى مواجهة "إرهاب" بعض الطلاب والأساتذة، وذلك بعدما ضَيِّقت الخناق على المعارضين بقانون غير دستوري لمنع التظاهر، وبعدما صنفت كل معارض على أنه إخواني، وصنفت كل إخواني على أنه إرهابي، وبعدما حالت بين الطلاب وبين التظاهر داخل الحرم الجامعي، واستباحت هذا الحرم بفتح أبوابه أمام قوات الشرطة لمطاردة الطلاب داخله. وفي سياق  الاجتياح الأمني للجامعات قتل وجرح الكثيرون من الطلاب، وساد الهلع والرعب أجواء الجامعة.

ووقعت الطامة الكبرى عندما وجدت السلطة في القيادات الجامعية "المنتخبة" من  يؤازر نهجها القمعي ومن يتمادي في تطبيقه ويطيح بما تحقق للجامعة من مكاسب عقب ثورة يناير. فقد عدل قانون تنظيم الجامعات ليصبح تعيين القيادات الجامعية من حق الرئيس وفق الأهواء السياسية وتحيزات الأجهزة الأمنية. وأقترح منح رؤساء الجامعات سلطة فصل الأساتذة والطلاب دون المرور بإجراءات التحقيق والمحاكمات التأديبية المنصوص عليها في الدستور وقانون تنظيم الجامعات- وهو ما أثار اعتراض مجلس الدولة.  ومن المدهش حقاً أن يكون بين من صاغوا هذا الاقتراح  وزراء ورؤساء جامعات هم في الأصل أساتذة قانون، ناهيك عن أن بعضهم كانوا ضمن النخبة التي طالبت مع ثوار يناير بالحرية والكرامة الإنسانية!

 وتتزايد الدهشة عندما يتقرر منع الأسر الجامعية بدعوى أنها مسنودة من أحزاب بعينها ، وبذريعة سخيفة مفادها أن  مهمة الطلاب هي تحصيل التعليم ليس غير. ومن  المعلوم أن معظم الجامعات العريقة – ومنها جامعة أكسفورد التي درست فيها-  توجد بها عشرات الجمعيات السياسية والثقافية التي تمثل ما في المجتمع من اتجاهات سياسية وفكرية، و يُدعي لإلقاء المحاضرات والاشتراك في المناظرات بها  قيادات حزبية وشخصيات سياسية ومفكرين من مختلف التوجهات، وذلك إشراكاً للطلاب في الشأن العام وتنمية لمداركهم السياسية والثقافية. ومن المعلوم أن نشاط هذه الجمعيات لم يعرقل العملية التعليمية والبحثية بهذه الجامعات؛ فهي لم تزل تزود مجتمعاتها بأفضل الخريجين، ولم تزل تحصد أرقى الجوائز عن الأبحاث الابتكارية لأساتذتها. فهل اتصل ذلك بعلم القيادات السياسية والجامعية الحالية أم تراها تجهله أم تفضل تجاهله لغرض في نفسها؟

لقد انقضت خمسة شهور منذ الإنهاء المبكر للعام الجامعي السابق حتى البدء المتأخر للعام الجامعي الحالي. وبدل أن يستفاد من هذه المهلة الطويلة في تفهم الأسباب الحقيقية لأزمة طلاب الجامعات وأساتذتها وتبين صلتها الوثيقة  بالأزمة السياسية التي دخلتها البلاد منذ الثالث من يوليو، وفي بلورة سبل معالجة هذه الأزمة من جذورها، فإن أولى الأمر خصصوا كل جهدهم للتخطيط  لتكرار أسلوب القوة الغاشمة ذاته الذي اتبعوه في الجامعات ومع المعارضة السياسية خارجها، غافلين عن أن تكرار التجربة  ذاتها لا يؤدي إلى نتائج مختلفة، وأن تشديد القبضة الأمنية يزيد من الإحساس بالظلم والقهر، وهو ما يفضي إلى المزيد من الغضب والتمرد والجموح.

فما الذي يُتوقع من الطلاب والأساتذة غير الغضب والاحتجاج على تقييد الحريات وأعمال القمع عندما  تُعلَّي أسوار الجامعات، وعندما تزود  أبوابها بالبوابات الإلكترونية والكاميرات التي ترصد تحركاتهم، وعندما يعاملون كمجرمين محتملين، يتعين تفتيشهم من قبل عناصر تابعة لشركات أمن خاصة- وما هي بخاصة إلا في ظاهر الأمر- فضلاً على التجسس عليهم  بواسطة بعض "الطلاب الوطنيين" الذين أعلنت القيادات الجامعية اختيارهم ليكونوا عيوناً لها - وللأجهزة الأمنية بالطبع؟ وكيف يُتصور استقرار الأمور بالجامعات عندما تهان كرامة الطلاب بالتكدس أمام أبواب الجامعات والانتظار الطويل للدخول مع تخلفهم عن حضور المحاضرات، وعندما تحاط الجامعات بمركبات الشرطة و مدرعات الجيش في انتظار أي فرصة للتحرك واقتحام "الحرم" الجامعي، وعندما تقوم الداخلية بإجراءات استباقية مثل خطف بعض الطلاب واعتقال بعضهم من منازلهم أو اعتقال أحد من ذويهم حال غيابهم، وذلك كله دون  اتهام محدد، وكأننا بصدد تطبيق غير معلن لقانون الطوارئ؟

وكيف يتيسر  للطلاب الاطمئنان اللازم لتحصيل العلم، وللأساتذة الإحساس بالحرية الضروري لتقديم العلم النافع بعدما بثت في نفوسهم هذه الإجراءات الأمنية القلق والذعر، وبعدما ما يتعرضون له كل يوم من توعد بالعقاب، وبعد ما علموه عن حجب إحدى الجامعات درجة الدكتوراه عن طالب بعد أن قررت لجنة الحكم على رسالته استحقاقه لها، وذلك لورود عبارات في الرسالة تصوروا أنها قد تغضب السلطة، وبعد إحالة من أشرفوا على الطالب إلى التحقيق؟ وهل يمكن قيام  بيئة جامعية يسود الحب والمودة والتضامن بين أعضائها من الطلاب والأساتذة جميعاً كتلك التي طالب بها طه حسين في مثل هذه الأجواء  الكئيبة، وفي هذه الأوضاع التي صار رؤساء الجامعات ومن يوالونهم من العمداء يتقمصون شخصية أسوأ نموذج لضابط الشرطة الفظ  غليظ القلب؟

أما آن الأوان كي يدرك أهل السلطة والمسئولون عن الجامعات أن التمادي في الإجراءات الأمنية لن يوقف الاحتجاجات والتظاهرات التي قد تنقلب إلى أعمال عنف كلما اشتدت القبضة الأمنية وكلما ضُيِّق الخناق على مجتمع الجامعة، وأن ينتبهوا إلى أنه لا معني لعزل أزمة الجامعات عن الأزمة السياسية التي تعانيها البلاد منذ 3 يوليو 2013. فهي من تداعيات هذه الأزمة الأم التي لا علاج لأسبابها في ساحة الأمن ولا في ساحة القضاء، بل إن علاجها الجذري في ساحة السياسة؟  وقد كان لي اجتهاد بشأن هذا العلاج بمقالي بعدد   26 يونيو 2014 من "الشروق". 

يذكر أن كاتب هذا المقال هو إبراهيم العيسوي، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي، وهو يعبر عن رأيه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشبكة.