بقلم طارق الكحلاوي
(طارق الكحلاوي هو سياسي وأكاديمي تونسي وعضو المكتب التنفيذي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه الرئيس الحالي منصف المرزوقي. كما أنه مدير عام المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية. درّس تاريخ الفن الإسلامي بجامعة رتجرز في الولايات المتحدة الأمريكية. وله مشاركات في عدة مواقع من ضمنها الجزيرة والقدس العربي والعرب. وما يرد في مقاله يعبّر حصرا عن رأيه ولا يعكس وجهة نظر CNN)
تدفع مؤشرات متنوعة قبل أيام قليلة من الانتخابات التشريعية إلى التفكير في أحد السيناريوهات المطروحة، وهو "التصويت العقابي" ضد النخبة السياسية الجديدة التي أفرزتها الانتخابات السابقة والنخبة السياسية الكلاسيكية عموما. وهذا يمكن أن يعني أنه باستثناء بعض الأحزاب التي عارضت نظام بن علي (مثلا "النهضة" و"المؤتمر" و"الجبهة الشعبية" والتي يمكن ان تتحصل على نسب بين كبيرة ومقبولة) فإن الأحزاب الأخرى التي ستبرز في المشهد الجديد الذي ستفرزه الانتخابات التشريعية تمثل في ذات الوقت إخراجا جديدا للمنظومة "التجمعية" القديمة من جهة أولى وتشكيلات سياسية تمثل بامتياز "المال السياسي" ورجل الاعمال "الشبعان" و"المشبوه" في ذات الوقت الذي يخلط الثروة الطارئة بالاعلام بالرياضة وبالسياسة.
ربما سيكون هذا المشهد الجديد صادما للبعض والاهم من ذلك مليئا بالتعقيدات التي ستصعب اي تحالفات تسهل الاستقرار السياسي لكنه ليس مشهدا اعتباطيا.
خلفيات سيناريو "التصويت العقابي"
الخلفيات التي يمكن ان تفرز مشهدا من هذا النوع تتلخص فيما يلي:
أولا، سياسات النخبة السياسية التي افرزتها الانتخابات الفارطة والتي وان حققت مكسبا اساسيا وهو حماية المسار الديمقراطي ومنع كل محاولات الانقلاب عليه مثلما حدث مثلا في مصر من خلال اليات التحالف بين الاسلاميين والعلمانيين و"الحوار الوطني"، فإنها لم تنجح بالقدر الكافي في تحقيق اشباع انتظارات كثيرة للناخب التونسي والتي كانت تأمل في قطيعة جدية ونهائية مع المنظومة القديمة. استمرت المرحلة الانتقالية ثلاثة سنوات (وهو التوقيت الذي اقترحه حزب "المؤتمر" من البداية) والذي كان مناسبا ليس فقط لتقاليد المراحل التأسيسية بل أيضا لضرورات المرحلة التأسيسية في تونس بالذات حيث كان يمكن لو كان هذا الأفق واضحا من البداية أن يسمح بخطط اصلاح هيكلية سريعة تفرز بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية واصلاحات ادارية عاجلة تبدأ مقاومة الفساد والمحاسبة. ما حصل هو التحضير لميزانيات وخطط حكومية قصيرة وأحيانا إضافة ميزانيات تكميلية بشكل دوري بعد كل ستة أشهر ذات طابع مؤقت وانتظاري.
ثانيا، بلا شك فإن الأسباب الهيكلية للوضع الصعب الذي واجهته النخبة السياسية التي أفرزتها الانتخابات الماضية لا ترجع إلى مرحلة ما بعد الثورة بل ترجع إلى سياسات واستراتيجيات كارثية للنظام القديم الذي قامت عليه الثورة. العجز في الميزانية الذي بلغ آلاف المليارات يرجع فيما يرجع إلى دفع خدمات الديون التي حصل عليها النظام القديم (وهو ما كان يستوجب "تدقيق الديون" مثلما اقترح عبر مشروع قانون "المؤتمر") ولكن أيضا خاصة "دعم الطاقة" المتفاقم والذي يرجع إلى سياسات طاقية قديمة تهاونت في مستوى العقود في استغلال جيد للموارد الطاقية المحلية ولم تنطلق بشكل مبكر في استراتيجيا الطاقة المتجددة. المشكل أن النخبة السياسية الجديدة كان عليها أن تواجه في نفس الوقت توقعات وانتظارات شعب قام بثورة وحملة إعلامية ممنهجة حملت كل المشاكل ليس للأسباب الهيكلية القديمة والمرتبطة بالنظام القديم بل لمرحلة ما بعد الثورة. كل ذلك خلق صورة "الفشل الذريع" للنخبة الجديدة.
ثالثا، صورة "الفشل الذريع" ساهمت في تغذيتها بشكل خاص المعارضة المشكلة من أحزاب كان بعضها معارضا للمنظومة القديمة. وكذلك عمليات إرهابية لتنظيم متمركز على تخوم البلاد الغربية ساهمت في إرجاع كابوس الخوف و"الأمن أولا" و"خطر الظلامية" (شعارات استندت عليه دعاية نظام بن علي لأكثر من عقدين) وهو ما خلق أرضية مناسبة لعودة رموز المنظومة القديمة في ‘خراج جديد وعبر تسميات جديدة.
هاته الرموز وإن تتنافس فيما بينها عبر يافطات مختلفة فقد استفادت من ضعف المحاسبة وتأخر قانون العدالة الانتقالية والمسار العام المذكور في النقطة الأولى. ما حصل هنا ان النخبة السياسة التي عارضت بن علي والمعروفة بمنظومة "18 أكتوبر" (نسبة لإضراب جوع شهير جمع بينها سنة 2005) دخلت في صراع داخلي مباشرة بعد الثورة سمح لمنظومة "7 نوفمبر" للملمة أشلائها والعودة في ثياب جديدة.
رابعا، سواء في شقها الجديد أو شقها القديم استغرقت النخبة السياسية الكلاسيكية في حرب إعلامية ضروس في السنوات الأخيرة. وأمام ركود الوضع الاقتصادي والاجتماعي وترويج صورة "السياسي الفاشل" مقابل "التكنوقراط الناجح" ساهم جزء من النخبة السياسية فيما يشبه الانتحار من خلال تشويه صورة "السياسي" ذاتها.
على خلفية ذلك وفي صمت يبدو أنه تشكل فراغ وحاجة ضمنية لدى جزء من الناخبين من أجل بديل خارج الطبقة السياسية برمتها وهنا استثمرت بعض الدوائر في صورة رجل الأعمال "الشبعان" صاحب الثروة الطائلة والذي يوظف كل أملاكه سواء قنوات تلفزيونية أو نواد رياضية في الدعاية. ورغم ان القانون يمنع بوضوح لمن يملك قناة أو يرأس ناديا رياضيا أن يرأس حزبا ورغم كل الشبهات بل والواضحة المحيطة بثروات طارئة من مخلفات سقوط أنظمة مثل نظام القذافي فإن الاضطراب العام في المرحلة الانتقالية و"المال السياسي" الوفير الذي تم توظيفه في الحملات الانتخابية ربما يشكل دفعا جديا لظاهرة رجل الأعمال-السياسي، وهي ظاهرة نجدها في أكثر من حالة في المراحل الانتقالية (أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية) ولو أنها تأتي بشكل مبكر في تونس--طارق الكحلاوي-مدير عام المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية .
كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى "تصويت عقابي" في ذات الوقت ضد جزء لابأس به من النخبة السياسية الجديدة ولكن أيضا النخبة السياسية ككل خاصة إذا أضفنا إلى ذلك عزوفا نسبيا عن التصويت.
مشهد سياسي معقد والرئاسيات
المشهد الذي يمكن أن يفرزه هذا السيناريو سيؤدي بنا إلى خريطة سياسية شديدة التعقيد. إذ أنه يعني كتلا انتخابية يصعب أن تنجح بسهولة وسرعة في تشكيل أي ائتلاف حكومي. إذ يمكن أن يعني في أحد فرضياته نتائج متقاربة بين أحزاب كانت في السلطة في اطار "الترويكا" من جهة واحزاب اخرى عارضتها بشدة سواء ممثلة للمنظومة القديمة او ممثلة لـ"يسار راديكالي" تحالف معها. الاولى ربما تكون غير قادرة لعدة اعتبارات تتجاوز حتى الوزن الانتخابي الى ما هو سياسي لتجديد تحالفها والثانية غير قادرة لذات الاعتبارات على تشكيل تحالف مماثل. وهذا يمكن ان يطرح تحالفا بين حزبين من المجموعتين. وقد تكررت تصريحات متبادلة في الاسابيع الاخيرة بين قياديي حزب "النهضة" و"نداء" حول فرضية التحالف بينهما. في كل الحالات فان التحالفات المفترضة في هذه الحالة ستكون شديدة الهشاشة يومكن ان تطرح لدى البعض حتى العودة لسناريو حكومة تكنوقراط بشكل جديد.
يضاف الى ذلك معطى مهم للغاية وهي فرضية امتناع جزء من الفاعلين عن الدفع بتشكيل اي حكومة مباشرة بعد الانتخابات التشريعية. وقد اطلق "الرباعي الراعي للحوار الوطني" منذ الان دعوة لإعادة إطلاق "الحوار الوطني" مباشرة بعد الانتخابات التشريعية وهناك مؤشرات على أن هذه الدعوة تأتي في سياق الضغط من أجل التريث وعدم البدء في تشكيل حكومة قبل إنهاء الانتخابات الرئاسية. هذا التوجه يخدم أساسا مرشحين في الرئاسية يخشون تصدع صفوف أحزابهم في سياق المفاوضات حول تشكيل الحكومة خاصة إذا كانت هويتهم السياسية قائمة على التخويف من الإسلاميين (هذا ينطبق بشكل خاص على "النداء") أو ما يمكن أن تتسبب فيه مثل هذه المفاوضات في تشوه صورة رجل الأعمال البعيد عن تعقيدات السياسة وإكراهاتها.
كل ذلك يعني أن الانتخابات الرئاسية يمكن أن تتم على خلفية سيناريو "التصويت العقابي" بما يعنيه من صمود بعض القوى التي أفرزتها الانتخابات الفارطة لكن أيضا عودة بروز المنظومة القديمة و"الأمن أولا" وتغول "المال السياسي." وهو ما يطرح تأثيرا عكسيا على الانتخابات الرئاسية يعيد خلط الأوراق والحسابات بما يحيل إلى بروز توجه لدى الناخب لإعادة تعديل الكفة والخوف من تغول تحالف رموز شبح الاستبداد والثروة المتغولة.
ولا يمكن للنخبة السياسية التي ناضلت ضد بن علي إلا التركيز على خيار واحد حينها لإحداث توازن ينقذ الحد الأدنى الديمقراطي وهو العودة إلى بوصلة "18 أكتوبر" ليس في الانتخابات الرئاسية فقط بل أيضا في سياق تشكيل المشهد السياسي برمته بعد الدورتين الانتخابيتين التشريعية والرئاسية. لأن الكثير مما يحصل الآن ناتج عن تعمق الصراعات بين القوى التي كان من المفروض أن تشكل نموذجا جديدا للسياسة في تونس.