هذا المقال كتبه إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
في كل مرحلة زمنية من مراحل الدول والبلدان تتصارع ثلاث نوعيات من البشر حول أي نوعية منهم هي الأحق بقيادة المرحلة؟ وهذه النوعيات الثلاث من البشر هم: نوعية ما نطلق عليهم رجال الدين ونوعية رجال الثقافة، وبينهما رجال الدولة والسياسة والذين عادة ما ينتمون للنوعية المنتصرة، فإذا انتصر المثقفون على رجال الدين تلاحظ أن رجال الدولة والسياسة يتقربون منهم ويدعون أنهم من المثقفين، وإذا ساد رجال الدين ترى رجال الدولة وقد لبستهم روح الورع والتقوى. وهذه النوعيات في كل البلدان وعلى مدى الزمان يحاولون أن يمسكوا بأيديهم دفة الحكم ويديرونها طبقاً لرغباتهم ورؤيتهم واسلوب القيادة التي يتبنونها.
في بلد كمصر، نرى هذا الصراع محتدماً بصورة أو أخرى في كل مرحة انتقالية للحكم، فقد كان واضحاً في الفترة الانتقالية بين الملكية والجمهورية ثم الفترة الانتقالية بين عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، والآن في الفترة الانتقالية بين مرسي والسيسي ومن هذا الصراع تبرز النوعية المتحكمة في الدولة.
فمنذ عصر محمد على بدأ صعود المثقفين على حساب رجال الدين فعندما أرسل محمد على بعثاته إلى الخارج، وبدأت هذه البعثات في العودة إلى البلاد وكان الانفتاح على باريس بدأ ظهور رجل الدين المثقف ورجل السياسة المثقف. لقد كانت الثقافة هي الأمل والرجاء لمصر وهكذا كان نجوم المرحلة رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وأحمد لطفي السيد وطه حسين وسعد زغلول ومكرم عبيد وغيرهم، وهؤلاء جميعاً سواء كانت خلفيتهم دينية أو سياسية إلا أن صورة المثقف هي الصورة التي في الواجهة والتي يتمناها كل مصري لنفسه ولبلده في ذلك الوقت. ومن هنا جاءت فتاوى الشيخ محمد عبده المستنيرة عن أن التماثيل نوع من الفن وليست أصناماً، وكذلك قوله إننا نحتاج لتفسير معاصر للقرآن الكريم حيث أن هناك مستجدات لم تكن في زمن النبوة.
وجاء كتاب الشيخ على عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم " لمواجهة أطماع الملك فؤاد في الخلافة الإسلامية ويصدر كتاب "لماذا أنا ملحد؟" ويرد عليه بكتاب "لماذا أنا مؤمن؟"، ويكتب قاسم أمين "تحرير المرأة" و "المرأة الجديدة"، ويكتب طه حسين كتاب "في الشعر الجاهلي" والذي رآه البعض أنه طعن في القرآن الكريم، ويقرر وكيل النيابة نتيجة التحقيق مع طه حسين أنه كتب ذلك مستهدفاً الحقيقة العلمية وليس الطعن في القرآن ... إلخ.
لقد كان المثقف هو رجل المرحلة واستمر هكذا حتى عهد عبد الناصر. وفى هذه المرحلة كان رجال الحكم يبدون كالمثقفين ويشجعون الثقافة ورجالها ويتباهون بعلاقاتهم مع المثقف. وكان بعض المثقفين ينفرون من تزلف رجال الحكم في محاولتهم الادعاء بأنهم أصدقاؤهم وعاصرنا بعض المثقفين الذين يعلنون تضررهم من لقاء الحاكم ويعلنون للشعب أنهم يطلبون فقط وجه الحقيقة وليس وجه الحاكم وكان من هؤلاء توفيق الحكيم ويوسف إدريس. في هذه المرحلة أبدع نجيب محفوظ رواية "أولاد حارتنا" ونشرت في الأهرام وعندما احتج الأزهر طلب الصحفي المثقف محمد حسنين هيكل من عبد الناصر أن يستمر الأهرام في نشرها ووافق عبد الناصر. لقد كانت الثقافة والمثقفين هم رجال المرحلة.
وفي منتصف السبعينيات بدأ التحول إلى رجل الدين، فتدين المثقفون الذين كانوا يساريين واشتراكيين، ولم يخجلوا من أنفسهم وهم يبدلون جلودهم وذلك عندما رأوا السادات يأخذ المبادرة ويتحدث عن رئيس مسلم لدولة إسلامية، ولبس الجلباب الأبيض وأمسك بالمسبحة كل ذلك لأن رجل الدين هو رجل المرحلة. وأصبح حضور رجل الدين كاسحاً مكتسحاً ونجوم الدين تتلألأ في سماء مصر. وكان أكثرهم نجومية الشيخ متولي الشعراوي وقداسة البابا شنودة، ثم ظهر النجوم الشباب خالد الجندي، وعمر خالد وغيرهما، لقد صار الدين نوعا من البيزنس. وقد حدث كل ذلك لأن المثقف فقد دوره وفقد هويته التي كانت له كحامل لقيم العلم والمعرفة والناقد لسلبيات المجتمع وسلوكيات أفراده، وقادر على أن يضع مقاييس حضارية وثقافية لهوية بلده حتى لا تشوه الهوية على حساب هويات مستوردة سواء كانت غربية أم خليجية، لقد حل رجل الدين محل المثقف، لقد طردت عملة رجل الدين عملة المثقف وهكذا تقرب الحكام والسياسيون والاقتصاديون إلى رجال الدين، بل ادعوا جميعاً التدين، لقد غاب المثقف على حساب رجل الدين والتدين المزيف وكانت النتيجة داعش والقاعدة والجهاد... إلخ. رأينا القتل والاغتصاب والاستعباد وسوق النخاسة باسم الدين، وهكذا فرضت ظاهرة الإلحاد واللادينيين نفسها.
في بداية عصر السيسي كل ما تحتاجه مصر ألا يقوم رجال السياسة والدولة بالتزلف للدين ورجاله، وهذا لا يعني عدم احترامهم بل العكس هو الصحيح فمع احترامهم لرجال الدين عليهم أن يعملوا في قلب خطتهم على عودة المثقف المصري بكل قوة ليعتدل الميزان، فالثقافة تحوي الدين والسياسة لأنها أوسع منهما وتحتويهما، فهل يقوم رجال الدولة بهذه المهمة عن اقتناع حتى يقف جيش وشرطة المثقفين في الخط الأول لمعركة الدولة ضد التخلف والتطرف حتى النصر، أم يستسهلون النجاح باستخدام الجيش والشرطة في حفظ الأمن والتخلف والتطرف ومغازلة الجماهير بمنافسة بعضهم البعض على من منهم هو الأكثر تديناً بين رجال الدولة؟.