هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
تتعمق الفرقة الطائفية، والمذهبية خصوصا، في منطقة المشرق العربي والخليج، وتشتد الكراهية المتبادلة، وكلاهما يشتعل صراعا عنيفا ومسلحا هنا وهناك. ما كان معروفا على أنه صراعات اقتصادية واجتماعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين أصبح في نظر الكافة، وبشكل لا تناقش سلامته، صراعات مذهبية. أفضل الأمثلة على ذلك الصراع في البحرين. تلك الجزيرة الصغيرة هي البلد العربي الوحيد الذي تغلب تماما على الأمية منذ عقود عديدة، والذي ترتقي فيه وضعية المرأة وممارستها لحقوقها.
للبحرين أن تفخر بذلك. ولكن في البحرين حرمانا وتفاوتا في مستوى المعيشة. في السبعينيات والثمانينيات نشطت النقابات العمالية ومجموعات حقوق الإنسان للمطالبة بشروط للعمل وظروف أفضل حتى يمكن رفع مستوى المعيشة والقضاء على الحرمان. الصراع كان يتخذ شكلا طبقيا ولم يحدث اللجوء إلى العنف لحسمه، بل إن الأطراف المطالبة بتحسين شروط العمل كانت هي ذاتها المعروفة في الدول المتقدمة الديمقراطية. نفس الصراع في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أصبح "صراعا مذهبيا"! حقيقة الأمر هو أن الصراع ربما تحوّل إلى صراع بين أتباع المذهبين السنِي والشيعي في البحرين ولكنه بقي في جوهره صراعا إقتصاديا واجتماعيا. غير أن الصراع عندما يعتبره اطرافه دينيا أو أيديولوجيا يصبح من شبه المستحيل اللجوء في تسويته إلى الحلول الوسط ويصير العنف مآلا شبه محتم له.
***
في لبنان الصراع الذي بدأ وطنيا واجتماعيا، حفّزه الوجود الفلسطيني، في منتصف السبعينيات من القرن العشرين سرعان ما تحوّل إلى صراع أهلي مسلح بين أتباع طوائفه السبعة عشر دام سبعة عشر عاما. التوجس والشك بين اللبنانيين المسلمين والمسيحيين كانا موجودين قبل الحرب واستمرّا بعدها، ولكن بشكل عام، وباستثناء فترة الحرب الأهلية الممتدة، بسندات إقليمية ودولية، عرف اللبنانيون كيف يديروا هذا الصراع. غير أن صراعا جدّ على لبنان واستعر في العقد الأخير، ألا وهو الصراع بين اللبنانيين من أتباع المذهبين السنِّي والشيعي، الذي اتخذ شكل الكراهية المتبادلة المفتوحة، بل وتمدد الصراع ليتصل بالنزاع المسلح في سوريا قرب الحدود بين البلدين. يهدد ذلك بأن ينفجر النزاع مسلحا إن عاجلا أو آجلا في داخل الأراضي اللبنانية. التعبير الصارخ عن الصراع في لبنان في الوقت الحالي هو شلل النظام السياسي وانعدام قدرته على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبالتالي فراغ المنصب الأعلى في البلاد.
***
في العراق، أقيم النظام السياسي فيما بعد 2003 على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، فتفسخت وحدة النظام السياسي وتحللت البلاد إلى مكوناتها، واستأثر من مثلوا الأغلبية بالسلطة واستهانوا بالأقليات من أكبرها إلى أصغرها، فنشأ الصراع بين الأغلبية الشيعية والأقلية السنّية المعتبرة وما لبث أن أصبح الصراع اقتتالا لم يسبق له مثيل، في العصر الحديث على الأقل، وهو صراع خبا لبعض الوقت ثم استعر من جديد في السنة الأخيرة وتداخل مع النزاع المسلح في سوريا واختلط به.
سوريا في الوسط توحّد الصراع عبرها من العراق إلى لبنان، وهو ما لا يدع مجالا للشك بأن الصراع إقليمي الطابع، يؤكد ذلك ويغذيه استناد أطرافه بشكل أو بآخر، وبدرجات متفاوتة في البلدان الثلاثة، إلى القوتين الإقليميتين الكبيرتين، السعودية وإيران. احترقت السلطة هنا وهناك في البلدان الثلاثة والتهمت جانبا من الحدود بين سوريا والعراق ولكن ما تخبئه الأيام يمكن أن يكون نيرانا هائلة يتواضع إلى جانبها كل ما عرفته المنطقة حتى الآن. هل يريد أحد أن تنشب في منطقتنا حروب دينية بعد أربعة قرون من وضع نهاية لمثيلاتها بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا؟ هل نريد أن نبدأ من حيث انتهت أوروبا وأن نعيش تاريخها الدموي؟ إن استعرت الحروب المذهبية في منطقتنا فهي ستكون كارثة سياسية واقتصادية وإنسانية على كل من يعيش فيها أو بالقرب منها ابراهيم عوض. لا بدّ أن يسمو أحد فوق الصراع المذهبي، وأن يبادر بالتوسط بين أطرافه، واقتراح الحلول عليهم، والتوفيق بينهم، وأن يكون نبراسه جمع كل الأطراف حول مشروع للسلام والأمن والتنمية لشعوب المنطقة ابراهيم عوض.
لا يمكن أن يلعب هذا الدور غير مصر. الجهد الدؤوب مستمر منذ سنوات طويلة لجذب مصر إلى الصراع المذهبي، ولكنه جهد بمثابة العبث ابراهيم عوض، لأنه قد يكون في مصر أفراد من الشيعة، ولكنهم يبقون كذلك أي أفرادا معدودين، ينبغي أن تكون لهم كل حقوق المواطنين، ولكنهم لا يشكلون طائفة لها أي وزن سياسي أو اجتماعي. الاختلافات في العقيدة، فضلا عن أنها بعيدة تماما عن الجوهر في حالة السنّة والشيعة الإثنى عشرية، فهي لم تكن يوما الأصل في أي صراعات دينية أو طائفية، فيما بين المسيحيين أو المسلمين أو فيما بين هؤلاء وأؤلئك. الدولة الصفوية في إيران نفسها لم تعتنق المذهب الشيعي في القرن السابع عشر لأسباب تتعلق بالعقيدة بل لحماية نفسها من الدولة العثمانية التي كانت في عنفوانها في ذلك الوقت. الصراع يحتاج إلى أطراف لينشأ والطرف الشيعي غير موجود في مصر.
***
غيبة الصراع المذهبي في مصر يؤهلها للعب دور "الكبير" في المنطقة، وللمبادرة بالأفكار، وللوساطة والتوفيق بين أطراف الصراع الإقليمي. قد يكون غائبا عن الكثيرين أن مصر لعبت من قبل دور الكبير هذا، عندما عهدت الطوائف اللبنانية في سنة 1943 إلى رئيس وزراء مصر، الزعيم مصطفى النحاس، بأن يقترح على زعمائها صيغة الوفاق الوطني، أي صيغة الأوزان النسبية للطوائف في النظام السياسي عند استقلال لبنان. أما ما بين مصر وإيران، فقبل النصف الثاني من الخمسينيات وما تعلق بالموقف من إسرائيل، كانت بينهما علاقة انتماء واحد، وواجه كل منهما السيطرة الاستعمارية، وكما أمم جمال عبدالناصر قناة السويس، أمم محمد مصدق النفط في إيران، وكافح البلدان بشكل متزامن من أجل الحكم الدستوري، وتلاقحت الثقافة الإسلامية في كل منهما. الخلافات الحالية، التغلب التدريجي عليها أصبح ممكنا.
قد تستاء أطراف إقليمية قريبة من مصر إن رأتها تلعب أدوار الوساطة والتوفيق في الإقليم، وقد تستنكف الدور أطراف دولية كبرى ولكن هذا الاستياء وهذا الاستنكاف سيكونان قصيري الأجل. سرعان ما ستدرك هذه الأطراف الفوائد التي ستجنيها من مثل هذا الدور البناء.
مجرد الاضطلاع بهذا الدور سيرتب لمصر قيمة مضافة في النظامين الإقليمي والدولي. المبادرة والوساطة والتوفيق ستضيف إلى مصر قوة في هذين النظامين، قوة تحقق بها أهدافها الاقتصادية والسياسية.
بدلا من الاصطفاف في صف من الصفوف والتفريط في أسباب للقوة متوفرة لديها، على مصر أن تلعب أوراقها بمهارة هي قادرة عليها.
ولا شك أن الأساس الأخلاقي للدور التوفيقي الإقليمي سيدعمه بناء نظام سياسي واجتماعي مصري يحتفل بتعدد مكوناته ويساوي فعلا بين مواطنيه ولا يميّز بينهم ابراهيم عوض.