هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
اقتضت بعض البحوث التي أقوم بها تدقيقي في دلالة بعض النصوص الدستورية، لذلك فقد توجهت إلى موضع وثيقة الدستور الرسمية في مكتبتي بالمنزل، ولم أجدها في موضعها، ولا في أى موضع آخر، وتضايقت لذلك كثيرا، فقد كانت حاجتي لها ماسة. وعندما استغرقت في التفكير، وجدت أن الأمر فيما يتعلق بي ليس بالغ الخطورة. فمن ناحية كثرة قراءتي لها جعلتني تقريبا أحفظها عن ظهر قلب، ومن ناحية ثانية تذكرت ما كان يقوله أساتذتي الذين تعلمت منهم القانون الدستوري، كانوا يميزون بين الدستور المكتوب المحفوظ في وثائق رسمية، والدستور الحي الذى تترجمه ممارسات فعلية من جانب مؤسسات الدولة على أرض الواقع.
وكانوا يؤكدون أن الأهم من الدستور المكتوب هو الدستور الحي المعاش، والذي قد يتجاوز النص المكتوب على نحو لم يتصوره واضعو الدستور، بتكييف هذا النص مع التطورات الإجتماعية والفكرية التي يعرفها وطن هذا الدستور دون أن يخرج عن المبادىء الأساسية له، وخصوصا ما يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطنين.
وكان أساتذة القانون الدستوري يضربون المثل على ذلك بالنظام الحزبي في الولايات المتحدة، فلم يذكره الدستور الأمريكي، ولكن الدستور الحي أوجد مؤسسة تسهل على المواطنين الأمريكيين ممارسة حقهم في المشاركة السياسية الذى نص عليه الدستور المكتوب. بل الأعجب من ذلك أن هذا الدستور الحي قد يكون واقعا ملموسا في دولة لا يوجد فيها أصلا دستور مكتوب، مثل المملكة المتحدة وحتى إسرائيل، ومع ذلك تخضع الممارسة السياسية في كل منهما لقواعد عرفية ملزمة لا يخرج عنها أحد. فرئيس الوزراء في كل منهما هو رأس السلطة التنفيذية ويملك حزبه الأغلبية البرلمانية، ومن ثم يقود السلطة التشريعية. لم يحدث في أي منهما مع ذلك أن رئيس الوزراء قرر مثلا تأجيل الإنتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى خشية سقوط حزبه في هذه الإنتخابات، أو أنه قرر البقاء في الحكم رغم الهزيمة في الإنتخابات أو أنه تجاهل أحكام المحاكم وذلك على الرغم من عدم وجود نص مكتوب يلزمه بذلك.
***
هون علي ذلك كثيرا وقلت مادمت أحفظ الدستور المعدل في سنة 2014 عن ظهر قلب، فلعلي أجد نصوص هذا الدستور في ممارسات مؤسساتنا السياسية، وهكذا جعلت أراجع في ذهني هذه المؤسسات، وأقارن ممارساتها بما جاء في نصوص هذا الدستور، وبدأت بمؤسسة الرئاسة. قفز إلى ذهني على الفور نص فقرة في المادة 145 التى تقول أنه يتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب وعند تركه، وفي نهاية كل عام، وينشر الإقرار في الجريدة الرسمية.
لم أذكر أني قرأت شيئا من هذا القبيل في أي من صحفنا، والتى كانت ستهلل للأمر باعتباره أول مرة في تاريخ مصر التي يقدم فيها رئيس الدولة على الإقرار بما يملك. ولكن قلت أنه ربما مازال الوقت مبكرا، وأن رئيس الجمهورية المنتخب، وإن كان فاته عمل ذلك عند توليه منصبه، فربما يفعل ذلك وفق نص تلك الفقرة بنهاية العام. هذه قد تكون قضية تفاصيل، وعلي أن أتجنب القفز إلى إستنتاجات، وأن أضع طبعي المتشائم جانبا وأنظر إلى ممارسات بقية المؤسسات، فهي لابد ملتزمة بالدستور المكتوب.
وهكذا بحثت عن سلطة التشريع ووجدتها في يد رئيس الجمهورية الذي لا يكاد اسبوع يمر إلا وهناك قانون جديد أو تعديل لقانون قائم يصدره. وآخر تلك هي تعديلات على قانون تنظيم الجامعات وقانون الأزهر. ولم يكونا من الأمور الملحة التى لا تحتمل التأخير، وكان يمكن انتظار انتخاب مجلس النواب الجديد ليقضي فيهما. وهنا طرأ على ذهني سؤال عن موعد انتخاب ذلك المجلس. ووجدت المادة 230 توجب بدء إجراءات انتخاب ذلك المجلس في موعد لا يتجاوز ستة اشهر من تاريخ العمل بالدستور. مرت حتى كتابة هذه السطور أكثر من تسع شهور على العمل بالدستور ومع ذلك لا توجد أي إشارة إلى أن تاريخ هذه الإنتخابات سيتحدد قريبا.
طبعا هناك تصريحات عديدة من جانب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بأن الإنتخابات قادمة، وهناك إجراءات توحي بأن تلك هي النية بالفعل، ولكن خيال حكومتنا الذي لا ينضب يخرج بين الحين والحين بإجراءات إضافية يتعين الأخذ بها قبل تحديد موعد تلك الإنتخابات، ولكن هذه الإجراءات تستغرق وقتا طويلا، مثل إصدار قانون بتقسيم الدوائر الإنتخابية، وتصور كثيرون أن هذا القانون جاهز.
ولكن اكتشفت الحكومة ضرورة عرض مسودة القانون على لجنة حددت مهمتها بثلاث أسابيع، ويلزم عرضه بعد ذلك على قسم التشريع بمجلس الدولة، وقضاة مجلس الدولة صارمون. وربما يكتشفون في مشروع القانون نواحي نقص تستوجب إعادته للحكومة مما يستغرق مزيدا من الوقت، كما قيل أيضا أنه لا يمكن تحديد موعد الانتخابات دون استكمال جداول الناخبين. وهكذا لا يبدو أن وعد الرئيس بأن انتخابات مجلس النواب ستتم قبل نهاية العام الحالي سيتحقق. ويقول أنصار الحكومة من الإعلاميين الذين يجدونها دائما علي حق فيما تفعل أنه لابد وأن هذه الانتخابات ستتم قبل إنعقاد المؤتمر الإقتصادى لأصدقاء مصر في شهر فبراير القادم.
لا أشكك في نوايا الحكومة، ولكن أثق أيضا في أن خيالها الخصب سيسعفها بحجة أو بعذر تقدمه للمؤتمر الإقتصادي لتبرر تأخرها في إجراء الإنتخابات. وطبعا سيقفز أنصار الحكومة هؤلاء للقول بأن نص المادة 230 الذي تذكرته لايلزم الحكومة بإجراء الإنتخابات خلال مدة الأشهر الستة بعد الموافقة على الدستور، ولكن سياق صياغة المادة يقطع بأن الهدف منها هو الإسراع بإجراء الإنتخابات في أقرب وقت ممكن، وليس اتخاذ نصها ذريعة للمماطلة في تحديد موعدها وتأجيل إجرائها إلى أبعد حد ممكن.
***
صرفت النظر عن ممارسات الرئاسة والحكومة وقلت في نفسي لعل أعضاء الحكومة من الوزراء حريصون على الدستور. ولكني وجدت وزير الإسكان يكثر من التصريحات في الصحف عن مشروع بناء عاصمة جديدة لمصر، تساءلت ألن تبقى مدينة القاهرة عاصمة لمصر بعد كل هذه القرون وبعد كل ما كتبه عنها المرحوم الدكتور جمال حمدان، تأملت تصريحات الوزير هو يتحدث عن عاصمة إدارية ولكنها ستشمل مقار للوزارات ومجلس النواب والسفارات؟ ماهو الفارق إذا بين العاصمة الإدارية والعاصمة غير الإدارية؟ أليست العاصمة هي مقر الحكم؟ أو لا يمارس الحكم من خلال الوزارات ومجلس النواب؟ ألا يحتاج السفراء الإتصال بالحكومة؟ قلت في نفسي أن وزير الإسكان مهندس، شأنه شأن رئيس الوزراء الذى لابد وأنه سمع تصريحاته. والمهندسون في مصر مولعون بالعمل والإنجاز. هذا أمر حسن؟ ولكن هل يكون ذلك بتجاهل النص الصريح للمادة 222 التى تقضي بأن مدينة القاهرة هي عاصمة جمهورية مصر العربية؟
***
لم يعد البحث عن تجاهل صريح من جانب الحكومة لنصوص الدستور مهمة شاقة مصطفى كامل السيد، فهناك أيضا المادة 18 التى تكلف الدولة بأن تكفل استقلال الجامعات، ومازال رئيس الجمهورية ورئيس السلطة التنفيذية مشغولا باختيار أكثر من تسعين من عمداء الكليات بعد مرور أسبوعين على بدء العام الجامعي والذى جاء متأخرا عن موعده. وهناك المادة 73 التي تكفل للمواطنين حق تنظيم الإجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الإحتجاجات السلمية غير حاملين سلاحا من أى نوع بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون، وأكدت المادة 92 أنه لا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها. وتذكرت أن في السجون من عوقبوا على احتجاجهم سلميا على مخالفة قانون التظاهر للدستور لاشتراطه بين أمور أخرى أن يكون للشرطة حق الإذن بالمظاهرة، وليس فقط أن تخطر بها وهو ما يخالف نص المادة.
أزعجني هذا التجاهل لكل هذه النصوص في وثيقة دستورية لم يمر عام على دخولها حيز النفاذ ولكن الذي أزعجني حقا هو سكوت الرأي العام عن هذا التباين الصارخ بين الدستور الحي والدستور المكتوب.
صحيح أن ثقافتنا في مصر سواء لدى النخبة أو لدى المحكومين هي ثقافة لا تعير القانون اهتماما كبيرا مصطفى كامل السيد بل يقال أن الهواية الأولى للمواطنين والحكومة هي انتهاك القوانين، ومع ذلك فمثل هذا التجاهل يلحق الضرر بالمواطنين والحكومة معا. الأولون تنتهك حقوقهم، والآخرون يعملون بدون رقابة ولا مشاركة حقيقية، ومن ثم يتنكبون الصواب على الأقل في بعض ما يفعلون، إن لم يكن في أهمه. ولنا في إدارة الشأنين الأمني والإقتصادي أكبر الدلائل على ذلك.
فكرت في أن أتصل بأصدقائي في لجنة إعداد الدستور لسؤالهم عما جرى لوثيقتهم على أرض الواقع، ولكن عدلت عن ذلك فلم أتصور أن لديهم جواب على هذا السؤال.