هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
سقط حكم بن علي وانا في اليابان استعد لمناقشة رسالة الدكتوراه. انتهت المناقشة بعد تنحية مبارك بأيام قليلة. كانت أيام مجيدة تحولت فيها مصر سريعا أو هكذا اعتقدت وقتها، تناقشت مع زوجتي فى جدوى العودة إلى مصر وتربية الأولاد هناك بعد ثماني سنوات قضيناها مغتربين فى اليابان، فالبلد أصبحت بلدنا.. هكذا كان تفكيري. في الأسبوع الثاني من مارس ٢٠١١ وقعت حادثة فوكوشيما النووية المؤسفة على بعد ٤٠٠ كم من مكان سكني فكان قرار العودة نهائيا.
في مصر عشت أياما لم أحلم بها في سنوات الغربة، مساحات حرية لا محدودة ومؤشرات دمج وتعددية غير مسبوقة، وصناديق نزيهة حتى وإن لعبت السياسة ألعابها المعتادة من وراء الستار. بعد شهور عدة بدأ الطلب علي يزيد بتعبير السوق، بدأت أظهر للمجتمع من خلال المشاركة في أعمال تطوعية توعوية في مبادرة مصر البهية التي قادتها زميلتي العزيزة وأختي الأكبر الدكتورة أمل حمادة ومعي زملاء أعزاء من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ثم شيئا فشيء ظهرت للمرة الأولى على شاشات التلفاز بعد أن تحمس لي الصديق العزيز أحمد الطاهري وقدمني بجراءة رغم صغر سني النسبي إلى برنامج الصورة الكاملة الذي تقدمه الإعلامية القديرة والمحترفة ليليان داوود على شاشة أتاحت لي دوما حرية الرأي والتعبير حتى في أحلك الظروف وهي شاشة أون تي في.
في خلال أقل من عام كنت ضيفا فى عدد من البرامج الحوارية الرئيسية، ثم ضيفا على موائد الأحزاب والتيارات الاجتماعية، ثم استكتبني الأستاذ الفاضل جميل مطر لأكتب فى جريدة الشروق في ديسمبر ٢٠١٢ وهي المنبر الذي قدمني أكثر إلى الرأي العام والمهتمين والمتابعين. أكثر من ستين مقالة هي حصيلة كتاباتي في جريدة الشروق جنبا إلي جنب مع ألمع النجوم والكتاب، حاولت وبذلت الجهد للتفرقة بين مواقفي السياسية والحقوقية التي اقتنعت ولازالت بها وبين تحليلي الذي اجتهدت بقدر الإمكان أن يكون محايدا وبعيدا عن الهوى، وقطعا نجحت أحيانا وفشلت في أحايين أخرى.
***
عبر ثلاث سنوات من عمر الثورة المصرية رأيت تواريخ تصنع وتمحى وتزور أمام عيني لم أكن لأصدقها مهما قرأت عنها فى كتب التاريخ لولا إني رأيتها رؤيا العين، شاهدت المواقف وهى تتمايل يمينا ويسارا بحسب تمايل السلطة واستقرار الموجة، رأيت من يقول عكس ما يفعل، رأيت من تصيبه الهيستريا إذا ما واجه الكاميرا أو الجمهور ليظهر شخصية غريبة تماما عن حقيقته، شاهدت كيف تصنع آلات الاغتيال المعنوي للمخالفين والمعارضين، شهدت كيف تنتهك الحرمات وتفصل القوانين على المقاس، رأيت كيف يتم لي ذراع الحقيقة وكيف تترنح العدالة! شاهدت بعيني أصدقاء وزملاء وهم يقبعون خلف أسوار السجون أو تحت الثرى. فهمت أن الطريق مازال طويلا في مصر للتحول الديموقراطي لأن شروط التحول الاجتماعية والديموغرافية لم تدرك بعد.
كانت مشكلتي الكبيرة في كل هذا إنه تم استنزافي، أن صورتي أصبحت أكبر من مضموني، أن التوقعات مني أصبحت أكبر بكثير من طاقتي ومن قدرتي الحقيقة بعيدا عن الزيف والتصنع. أن عملي الأصلي (البحث العلمي والتدريس الجامعي) قد بدأ يتأثر كثيرا بسبب الانشغال بالعمل العام، اكتشفت إنني لست من هؤلاء الذين يملكون جلدا سميكا، وأن سباب عائلتي يؤثر فى كثيرا وأن استباحة أسراري وحياتي الخاصة لتصفية الحسابات السياسية لم أعد أطيقه.
لا يمكن لكاتب أن يصدق في قوله وفعله وتحليله وهو تحت التهديد الدائم سواء كان مجتمعيا أو سلطويا أو عسكريا، لم أعتد الجو البوليسي ولا أرغب أن أعيش في ظل نظام قمعي، وقدرتي على المقاومة بالكتابة تتهاوى وتفقد بريقها وأهميتها تدريجيا مع تزايد حالة الهيستريا المجتمعية، لذلك قررت إعادة التفكير في كل ما أفعل، هي تجربة حياة قصيرة لكنها فادتني كثيرا وأتمنى أني كنت مفيدا على مدار تلك السنوات القليلة.
***
هذه ليست رسالة انسحاب أو هزيمة أو مظلومية، ولكنها رسالة نقل خبرة بسيطة للمهتمين، قرار بتحويل مجرى الحياة والاهتمامات، فقد أدركت وقد شارفت على منتصف العقد الثالث أن العمر يمضي سريعا مهما بدا غير ذلك ولا يمكن للإنسان أن يترك نفسه لتتقاذفها الأمواج والظروف السياسية هنا وهناك حتى يضيع العمر وقد وجد رصيده المجتمعى في إعمار الأرض صفر فيدخل الإنسان إلى قبره كما جاء من رحم أمه بلا إنجاز يذكر.
هذا المقال ليس تهديدا للمجتمع الذي قطعا لن يفرق معه أن يتوقف كاتب مبتدئ مثلى عن الكتابة، لكنه رسالة الى من يهمه الأمر في مصر، لن أدخل في نوايا النظام ولم ولن أتسول لقاء مسئوليه مثلما يفعل البعض كوسيلة للحماية أو للوجاهة، ولكني أقولها لكم صريحة وأقولها للرئيس تحالفاتكم خاطئة وانحيازتكم إلى الثورة لم تترجم إلى أفعال على الأرض بعد، لن أخشى أن أقول لكم ما قد يخشى المحيطون بكم أن يقولوه، سياسات النظام الحالية تزيد من حدة الاحتقان وحدة الغضب وحدة اليأس وحدة الانسحاب والعزلة وبالتالي تقود الى العنف والارهاب، نعم يؤيدكم كثيرون، لكن هناك من يعارضكم. ربما صوته ليس عال وربما ليس قادرا على الظهور، لكن السياسي المحنك هو من يسعى لمعرفة الحقيقة بعيدا عن أي ضوضاء تحاول إيصال صورة مغايره له.
نعم نحن مع ثوابت مصر الدولة، نحن مع جيش موحد ومدرب وقادر على القيام بمهامه في حفظ الأمن القومي، نحن مع شرطة قادرة على حفظ الأمن لا نسعى إلى هدمها أو إلى استبدالها، نحن معكم في مواجهة ومكافحة الإرهاب، نحن نبكي على شهدائنا من الجيش والشرطة مثلما يبكي الجميع، نعم نحن نقدر أن هناك مؤامرات هنا وهناك وهذا هو حال السياسة، لكننا نفهم أن كل ذلك يجب أن يتم من خلال سياسة أمنية ذكية تتوازى مع مسارات إصلاحية، من خلال إصلاح الإعلام واغلاق أبواق الفاشية فيه وما أكثرها، من خلال قانون دستوري أولا، ومشرع من سلطة نيابية لا تنفيذية ثانيا، ويطبق على الجميع ثالثا، نحن مع قضاء مستقل ومحايد وقادر على مواجهة أعباء الدولة المتراكمة، من خلال منظومة عدالة انتقالية تبحث عن الحقيقة وليس عن تصفية الحسابات السياسية، وتحاسب وتحاكم وتعاقب وليكن مايكون.
***
أتعرفون ما يقوله الشباب؟ يقولون أن الشبكات القديمة تحكم وتحصل على البراءة وتخرج لسانها للجميع، بينما يسجن الشباب بقوانين غير دستورية! يرون أن مجموعة من المنتفعين لديهم حصانة مطلقة أسهبوا في استخدامها لتصفية حسابتهم السياسية مع المعارضين وإنهم يفعلون ذلك بالنيابة عن بعض المؤسسات الرسمية! قد يقول لك أحدهم من الأذكياء هؤلاء الشباب لايزيدوا عن عشرة أو عشرين، ولكني أصدقك القول هم آلاف ربما ليسوا أغلبية ولكنهم الأكثر قدرة على تحريك الساكن بحكم مهاراتهم في التواصل الاجتماعي والتكنولوجي، حتى وإن تم الزج بهم جميعا فى السجون، حتى وإن تم اسكاتهم أو تهديدهم فلديهم شبكات اجتماعية من أصدقاء وجيران وأقارب لديهم غصة في القلب وشعور بالظلم فكيف سيتم اسكات كل هؤلاء؟ وحتى لو تم اسكاتهم، فهل هكذا تكون التنمية وتكون مصر المستقبل؟
لن أدخل في مزايدات مع الخصوم حول حب البلد أو حول تقدير ظروفها الصعبة، فنحن نقدر الظروف ونقدر المحن، ولكننا أيضا نفهم ونتيقن من أن استمرار السياسات الحالية بلا تغيير ستقود الجميع إلي الهاوية، أنا زائل وأنت زائل وكلهم زائلون ولكن ستبقى هذه البلد وسيبقى شعبها وستبقى أرضها ولكن بأي حال وبأي تقدم وبأي ثمن؟ هذا هو تحدي المستقبل ولا يجب أن نخسره.