هذا المقال بقلم د. ألون بن مئير وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
بالرّغم من أنّ الإستئناف المتوقّع للمفاوضات غير المباشرة ما بين إسرائيل وحماس في القاهرة قد تأجّل، من المحتمل أن تستأنف هذه المفاوضات خلال الأسابيع القليلة القادمة حيث يبدو أن كلا الجانبين مهتمّ بهدنة جديدة وأكثر ثباتا ً. فإذا حقّقت إسرائيل وحماس أهدافهما المعلنة، وبالتحديد الرّفع الكلّي للحصار الإسرائيلي وبناء ميناء بحري ومطار حسب مطلب حماس مقابل نزع السّلاح التامّ من قطاع غزّة حسب مطلب إسرائيل، فإن العلاقة ما بين إسرائيل والفلسطينيين ككلّ ستتغيّر جذريّا ً، الأمر الذي سيغيّر طبيعة الصراع ويحسّن بصورة ملموسة وجوهريّة إمكانيّة إحلال السّلام بين الطرفين. والسؤال الآن هو: هل ستؤدي ظروفهم السياسيّة والواقع الذي يواجهونه لمثل هذه النتيجة؟
تجدر الإشارة أوّلا ً إلى أنّه بالرّغم من إنكار كلّ منهما حق الطرف الآخر بالوجود، فإن حقيقة قيامهما بالتفاوض مع بعضهما البعض، ولو بشكل ٍ غير مباشر، يرقى للإعتراف الفعلي لكلّ منهما بالآخر وللحقوق المميزة الخاصّة به.
ثانيا ً، خلافا ً لادعاء كلّ منهما بالنّصر، لم تبرز الحرب الأخيرة منتصرين بل خاسرين، وبدت نقاط ضعفهما وإخفاقاتهما واضحة تماما ً للعيان، الأمر الذي أجبرهما على إعادة تقييم خططهما وأهدافهما المستقبلية.
ذهلت الإستخبارات الإسرائيليّة بمدى تشعّب وعمق شبكة أنفاق حماس وبنائها الإستراتيجي لمهاجمة إسرائيل من الخلف. لقد كلّف الجيش الإسرائيلي جنودا ً غير مدرّبين وغير مجهّزين وبمعلومات ضحلة لتدمير الأنفاق.
وخلال خمسين يوما ً من القتال شحّت الذخائر لدى الجيش الإسرائيلي الذي ناشد الولايات المتحدة لكي تسرع في إنقاذه، هذا في الوقت الذي كان فيه يعاني من إدانة دوليّة شديدة اللهجة لموت ما يقارب من 1.500 مدني فلسطيني.
ومقدرة حماس على إمطار حوالي 4.600 صاروخا ً على إسرائيل بعث بموجات من الصدمات والهزات عبر جميع أرجاء البلاد مجبرة ً آلاف الإسرائيليين على الهروب والإختباء في الملاجىء في حين استمرّت حماس بإطلاق الصواريخ حتّى الدقيقة الأخيرة، هذا مع العلم أنه ما زال هناك أيضا ً آلاف عديدة من الصواريخ لم تتمكّن القوات الإسرائيليّة من تدميرها.
وحماس لم تحقق نتائج أفضل. لقد أخضعت القطاع للغارات الإسرائيليّة الجويّة المدمّرة والتي تجاوزت إلى حدّ كبير أية غارات في الماضي وتركت نصف القطاع تقريبا ً أنقاضا ً بالمحاذاة مع تدمير الأنفاق التي أنفقت على إنشائها مئات الملايين من الدولارات.
وفي حين تدّعي حماس بأنها انتصرت، فقد برزت من الحرب معزولة أكثر من أي وقت ٍ مضى، وما زالت معرّضة للخطر وضعيفة أمام الغزوات العسكريّة الإسرائيليّة وتحت رحمتها في تخفيف الحصار.
ففي مقابلة مع التلفاز المصري قال رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس: "أنا لا أخدع نفسي بالقول "كان انتصارا ً". أي انتصار هذا ؟ ...لما عانيناه خلال الخمسين يوما ً هذه ؟ لدينا 2.200 قتيل و 10.000 جريح و 40.000 منزل ومنشأة ومصنع دُمرت ! قل لي ما هو الذي حقّقناه ؟".
ولكن على الرّغم مما عاناه كلا الجانبين، لن تلبّي إسرائيل تحت الظروف الحاليّة مطالبات حماس برفع الحصار عن القطاع والسماح لها ببناء ميناء بحري وآخر جوّي. وبالمقابل سترفض حماس مطالب إسرائيل بنزع سلاح القطاع والكشف عن مستودعات الصواريخ وتسليمها.
ومع كلّ ذلك، هل هناك إمكانيّة أو فرصة بأن يحقّق الطرفان أهدافهما وتحت أية ظروف ؟ حماس تدرك عبث إستفزاز إسرائيل والتدمير الذي ستعانيه نتيجة ذلك. وبالمقابل تدرك إسرائيل بأن حماس حقيقة واقعيّة وحركة شعبيّة قادرة على استعادة قوتها وتستطيع تحمّل الألم والضغط وأنها وجدت لتبقى.
هناك احتمال قويّ بأن يتمّ التوصّل إلى اتفاقية هدنة أخرى قد ينتج عنها تنازلات من قبل الطرفين، أي أن تقوم إسرائيل بتخفيف الحصار بشرط أن يُسمح لموظفي أمن السلطة الفلسطينيّة بمراقبة المعابر الحدوديّة ويضمن المراقبون الدوليّون من طرف الأمم المتحدة بأن تُستخدم جميع مواد البناء لغرض بناء المساكن والبنية التحتيّة.
وبالرغم من أنّ العقل والمنطق استعصيا من الناحية التاريخيّة على الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنني أعتقد بأن الحرب الأخيرة قد تكون أيقظت كلا الطرفين لواقع ٍ مرّ جديد. فالإسرائيليّون والفلسطينيّون الذين أعرفهم وتكلمت معهم يؤمنون بشدة بأنه ولمنع حرب أخرى قاتلة ومدمرة ينبغي ألاّ تكون اتفاقية الهدنة الجديدة والطويلة الأمد غاية ً في حدّ ذاتها.
وحيث أنّه لا يستطيع أيّ من الطرفين أن يستقصي الآخر عن الوجود، ونظراً لأن الوضع الراهن غير ثابت ومستقرّ، فإن اتفاقيّة تتكوّن من عدد من المراحل عبر فترة زمنيّة لا تقلّ عن ثلاثة أعوام ويكون هدفها في النهاية نزع سلاح قطاع غزة ورفع الحصار هي الوحيدة الكفيلة بأن تنجح.
هذا يعني بأن مبدأ المعاملة بالمثل إذا تمّ ترسيخه سيسمح ببناء الثقة بين الطرفين، هذا بشرط أن يلتزم كلّ طرف بتعهداته، مثلا ً: تدمير عدد من الصواريخ يتفق عليه الطرفان مقابل سماح إسرائيل ببناء الميناء البحري.
المرحلة الثانية قد تؤدي إلى تدمير عدد ٍ آخر من الصواريخ مقابل تخفيف قيود السفر من وإلى قطاع غزّة... وهكذا. هذا ويجب تنفيذ كلّ مرحلة ضمن فترات زمنيّة محدّدة وتتم مراقبتها من قبل لجنة أوروبيّة تدعمها الولايات المتحدة لضمان التزام الطرفين بها.
وبالفعل، ما دامت إسرائيل لا تريد بدون أدنى شكّ إعادة احتلال القطاع وحماس لا تريد أن ترى غزّة في دمار مرّة أخرى، فإن مثل هذه الإتفاقيّة ستصمد ضدّ اختبار الوقت وستجعل من عمليّة السلام ما بين إسرائيل والفلسطينيين قضيّة أكثر جوهريّة ً واتفاقية سلام أكثر قبولا ً من أيّ وقت ٍ مضى.
ودور مصر كوسيط وميسّر الآن وفي المستقبل أمر في غاية الأهميّة حيث أنّ للقاهرة مصلحة وطنيّة في منع حرب حمساويّة – إسرائيليّة أخرى وهي قلقة أيضا ً من النشاطات الإرهابيّة المتزايدة في سيناء. أضف إلى ذلك، فإن مصر تريد إقصاء حماس عن إيران وتركيا.
ينبغي ألاّ يكون هناك كشف علني حول المدى الكامل للإتفاقيّة حيث لا يرغب كلا الطرفين في إظهار ُبعد ما توصّلا إليه في شوط ٍ واحد. وبالفعل، المهمّ فقط هو ما يظهر على أرض الواقع ومدى فائدته بالنسبة للطرفين.
ما لا يقلّ أهميّة عن ذلك هو ضرورة أن يوقّف الطرفان حملاتهما ورواياتهما الشعبيّة اللاذعة وذلك لتحضير شعوبهما على تغيير مواقفهما تجاه بعضهما البعض بآثارها التاريخيّة.
وينبغي أن نتذكّر في هذا السياق الدّمار الذي ألحقته إسرائيل بالضفّة الغربيّة إبّان الإنتفاضة الثانية في عام 2000 التي دمّرت معظم ما بنته السلطة الفلسطينيّة منذ عام 1993، الأمر الذي كان بمثابة صحوة فظيعة للسلطة الفلسطينيّة التي أدركت بأن استعمال القوّة ضد إسرائيل أمر ٌ غير مجدٍ ويأتي بنتائج عكسيّة.
هذا الدّرس لم يكن سدى ً أيضا ً بالنسبة للإسرائيليين الذين عانوا من (117) عمليّة "انتحارية" أودت بحياة أكثر من 1.000 إسرائيلي خلال نفس الفترة مما أدّى إلى أن تقوم السلطة الفلسطينيّة بنبذ العنف وإلى التعاون الأمني بين الجانبين.
ينبغي ألاّ تكون الحرب الحمساويّة – الإسرائليّة الأخيرة أقلّ إفادة ً وتوجيها ً. فبالرغم من الخلافات الإيديولوجيّة ما بين منظمة التحرير الفلسطينيّة العلمانيّة وحركة حماس الملتزمة دينيّا ً، ستتوصّل هذه الأخيرة حتما ً لنفس الإستنتاج حيث قد أظهر التاريخ بأنه في نهاية المطاف حتّى المعتقدات الدينيّة ستتكيّف حسب الواقع الذي لا يتزعزع وبالتغيير الحتمي.
أجل، يشير كلا المنطق والواقع إلى هذا الإتجاه الذي لا تستطيع لا إسرائيل ولا حماس تجاهله بدون عواقب وخيمة لا تُحمد عقباها.