هذا المقال بقلم آمال قرامي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
اُعلِنت النتائج النهائية للانتخابات فهلّل من هلّل، وشكّك من شكّك، وفرحت فئات وحزنت فئات أخرى، ولكن بعيدا عن هذه المشاعر المتباينة يحقّ لنا أن نتساءل: هل بإمكان الطبقة السياسية المخضرمة أن توفّر الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأن تحقّق بعضا من الوعود المقطوعة؟
من الواقعية بمكان أن نعترف أنّه ليس بإمكان أيّ حزب أن يخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية، وأن يخفّف من المعاناة اليومية لأعداد كبرى من التونسيين، وأن ينقذ الطبقة الوسطى من خطر الاضمحلال. فالانهيار الاقتصادي بلغ مداه، ولن تنفع برامج الإنقاذ التي اقترحتها الأحزاب التي تدّعي أنّها تملك خبراء قادرين على تنفيذ 'المنوال الاقتصادي' المرجوّ. فهل بإمكان "حزب نداء تونس" بالدرجة الأولى أن يعلن أمام بقية الأحزاب أنّه عاجز بمفرده عن تحقيق المعجزة، وأنّه "سيجرّب" مثل غيره من النخب أن يعالج الوضع؟ ثمّ هل بإمكان الحكومة الجديدة أن تصارح المواطنين بحقيقة الوضع، وبمحدودية المعالجة وغياب التصوّر العملي المناسب لصياغة السياسات الاقتصادية؟ وهل بإمكان الطبقة السياسية أن تصغي إلى بقية الأصوات مهما كان انتماؤها الحزبي دون أن تشعر بعقدة التبعية للآخر غير الموالي؟
***
لا تلتقي الأحزاب السياسية في افتقارها إلى تصوّر دقيق لإدارة المرحلة القادمة فحسب بل إنّها تلتقي أيضا في: أوّلا قصورها عن تقديم مشروع متكامل يمكن أن يقنع الشباب الذي كان وقود الثورة، وثانيا عجزها عن تقديم إجابات دقيقة عن الأسئلة الحياتية التي تشغل الشباب كالعمل، والكرامة، وحقّ الاعتراف، والخروج من التهميش، والثقة في المستقبل، والأمل الذي يمكن أن يثني أعدادا كبرى من الإقدام على الانتحار: حرقا، وشنقا، وغرقا، أو الانضمام إلى عالم الجريمة المنظّمة، أو السفر للجهاد في سوريا، أو الانتماء إلى تنظيمات إرهابية، أو الرغبة في التعامل مع "الدواعش". وعلى هذا الأساس هل استعدّت الأحزاب لمواجهة هذه المعضلة، والتفاعل الجدي مع هذه الأجيال أم أنّها ستتجاهل هذا الملفّ، وستنشغل بتصفية الحسابات الضيّقة، والتناحر من أجل السلطة؟
وليس غياب بلورة سياسة واضحة للتعامل مع فئة الشباب الهنة الوحيدة في ما اقترحته الأحزاب من برامج بل إنّ التعاطي مع ملف الإرهاب مثّل هو أيضا علامة على ضبابية الرؤية. فهل تملك الأحزاب الجرأة على مواجهة الفكر الأصولي، وتقديم أجوبة علمية حول أسباب إقبال فئة من الشباب على هذا الفكر المتشدّد؟ أليس غياب الأنموذج والخطاب البديل، والشخصيات القدوة من بين أسباب تسلّل الفكر المنغلق إلى ربوعنا؟ ألا تتحمّل النخب مسؤولية ما تعانيه الأجيال الجديدة من شعور بالإحباط والعدمية واليأس؟
وهنا لا يمكن التغاضي عن مشكلة غياب القيادات السياسية. فجميع الأحزاب تفتقر إلى وجود شخصيات سياسية تتمتّع بالكاريزما المطلوبة في سياق ثوري، ولها القدرة على صياغة خطاب سياسي، ولغة سياسية تتلاءم مع مطالب التونسيين، وتلبّي حاجاتهم فضلا عن توفّر مميّزات سياسية، وقدرات عملية تمكّن صاحبها /صاحبتها من فهم الواقع المتغيّر وتحليله ثمّ استشراف المستقبل. فأنّى السبيل إلى إقناع الجماهير وتقليص الفجوة بين السياسي وعامة التونسيين في الأرياف والجبال وفي غيرها من المناطق المهمّشة؟
***
إنّ الزعم بأن لا خيار أمام التونسيين إلاّ 'التوافق" يقتضي، في تقديرنا، الاعتراف بأنّه لا وجود لحزب قادر بمفرده على إدارة البلاد، وإخراجها من الأزمات، وهذا يترتّب عنه إعادة بناء العلاقات بين مختلف الفاعلين السياسيين لا على قاعدة الأغلبية والأقلية بل على أساس مقتضيات التعددية السياسية التي تفرض مشاركة جميع الأطراف المؤمنة بالثقافة الديمقراطية التشاركية، وهو ما يتطلّب صياغة عقد سياسي واجتماعي جديد تلتزم به جميع الأحزاب التي يمكن أن تتفق حول مشروع موحّد.
وليست إدارة الشأن السياسي حكرا على أهل السياسة من حكام ومعارضين، وبعض قوى المجتمع المدني مثلما دأبت النخب السياسية والإعلامية على فرض هذا التصوّر بالقوّة بل آن الأوان لتغيير التصورات، وفتح المجال أمام كلّ من يستأنس في نفسه القدرة على تقديم الإفادة من فنانين وجامعيين وأصحاب الخبرات وغيرهم. فتونس الغد بحاجة إلى الجميع وليس من المقبول أن نتفاعل مع بنية ثورية بأساليب فهم قديمة، وعقول متكلسة، وبنية نفسية مضطربة تهاب التغيير، وتعدّد الأصوات، واختلاف المناظير. ليست الآمال معلّقة على حزب نداء تونس بقدر ما هي مرتبطة بمن له القدرة على استكمال المسار الثوري و تلبية النداء.