هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
بعدما انجلى غبار المعركة الانتخابية في تونس أصبح من الواجب طرح السؤال حول العوامل التي أنجحت المسار التالي على الثورة في تونس في مواجهة صعوبات شديدة فيما فشل المسار السياسي الذي بدأ في مصر في أعقاب الإطاحة بمبارك، والذي بدأ باستفتاء مارس 2011 وانهار برمته في يونيو قبل الماضي، لتدخل البلاد مرحلة انتقالية ثانية أو ثالثة لم تنته بعد، وخلافا لما قد يبدو من أن السؤال ينتمي للماضي فإنه يقع في قلب الإشكالات الحالية التي تواجه التحول السياسي في مصر، إذ أنه ما من سبيل للتوصل لحلول للأزمة السياسية والاجتماعية العميقة التي تمر بها البلاد دون إعادة بناء للفترة التي تلت سقوط سلطوية نظام مبارك، والفرص العديدة التي أهدرت لبناء نظام قادر على استيعاب القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في إطار تعددي، وهو ما يرجعنا للسؤال: لماذا نجحت تونس فيما فشلت مصر؟ وهل كان فشل التحول السياسي في مصر حتميا؟
يجد البعض الإجابة على هذين السؤالين في عوامل هيكلية كمستوى التنمية الاقتصادية ودخل الفرد ومعدلات التحصيل التعليمي والأمية ونصيب المرأة في سوق العمل، فنجد مثلا أن الصديق العزيز الدكتور عمرو الشوبكي يذكر بمقولته الشهيرة التي سبقت ثورة يناير في مصر، والتي دفع فيها بأن مصر ليست تونس، معتبرا أن حصاد السنوات الأخيرة في كلا البلدين خير شاهد على صدق مقولته، والتي مفادها أن ثورة في مصر لم يكن لها أن تنشئ نظاما ديمقراطيا مستقرا.
والحق، فإني مع كامل التقدير أختلف تماما مع هذا الطرح وأرى أنه يجانب الصواب والمنطق في العديد من منطلقاته وفي بنائه لتطور الأحداث في البلدين بعد الثورتين الشعبيتين اللتين جرتا بالتزامن، وذلك لإعلائه من شأن عوامل هيكلية ثابتة على حساب الجوانب الأكثر دينامية والتي عادة ما ترتبط بالاختيارات والقرارات التي تتخذها المجموعات المهيمنة على مسار الانتقال السياسي في كلا البلدين بعد سقوط النظام السلطوي، وهو المدخل الذي تنطلق منه دراسات التحول الديمقراطي التقليدية في تركيزها على الفاعلين وليس على العوامل الهيكلية أو المؤشرات الكلية اقتصادية كانت أو اجتماعية، إذ أن دراسات التحول الديمقراطي التقليدية عادة ما تركز على تفاعل النخب السياسية، ومدى قدرة هذه النخب على التواصل والتوصل لاتفاقات على الحد الأدنى من القواعد السياسية، وحتى الاتجاهات الناقدة لمدرسة التحول الديمقراطي التقليدية ظلت تركز على الفاعلين وإن تجاوزت في هذا النخب إلى الحركات الاجتماعية والتشكيلات والتنظيمات التي ليس بالضرورة أن تنتمي لفضاء "النخب السياسية" من أحزاب ونقابات ومؤسسات رسمية، ولكن يظل التقليدان يصبان الاهتمام في تحليل فشل أو نجاح التحول السياسي، على سلوك الفاعلين، والعوامل التي دفعت هؤلاء الفاعلين من النخب أو غيرها لاتخاذ قرارات وخيارات في لحظات معينة مؤثرة في تحديد مسارات تشكيل النظم السياسية في مراحل ما بعد السلطوية.
وهنا لا تبدو مؤشرات كلية كالتعليم والأمية ومشاركة المرأة في سوق العمل، على أهميتها عوامل مؤثرة بشكل مباشر في تعريف سلوك الفاعلين السياسيين في مصر، خاصة النخب السياسية التي هيمنت عمليا على تحديد ملامح نظام ما بعد مبارك سواء أكانت من داخل جهاز الدولة أو في أوساط الإسلاميين وخاصة الإخوان المسلمين الذي تصدروا المشهد بعد الثورة.
فهل يفسر انخفاض مستوى التعليم خيارات النخب السياسية والفكرية والاقتصادية في مصر؟ هل تفسر الأمية أو انخفاض مستويات التنمية الإنسانية خيارات جبهة الإنقاذ أو الإخوان المسلمين أو الدعوة السلفية؟ قد تفسر بالقطع المؤشرات الكلية هذه المشهد الأكبر من بروز الاستقطاب الاسلامي ـ المدني، وإن كان المشهد السياسي العام في تونس لم يختلف كثيرا عن مصر، وأعتقد أن من زار تونس في السنوات الثلاث الماضية بإمكانه أن يدرك أن الاستقطاب الديني العلماني كان أشد وطأة منه عما كان في مصر، وأن الصراع حول المجال العام بعد عقود من علمانية الدولة في تونس أشد خطورة مما هو في مصر التي خضع المجال العام فيها، بل والدولة نفسها، لأسلمة مستمرة منذ السبعينيات. ورغم هذا فالسؤال لا يكون "لماذا وجد هذا الاستقطاب السياسي المبني على الهوية؟" بقدر ما يكون "لماذا تمكنت النخب السياسية في تونس من معالجته بشكل حفظ حياة المسار التالي على الثورة فيما فشلت النخب المصرية في إتمام هذه المهمة؟"
أعتقد أن الانطلاق من المؤشرات الكمية أو الكلية للتنمية للتوصل إلى نتائج حتمية حول إمكانية التحول السياسي من عدمه هو أمر ينافي جوهر السياسة ذاته، والذي يقوم على تصور أن السياسة أداة من أدوات الفعل الإنساني لتغيير الواقع والفكاك من أسره لا إعادة إنتاجه، وفي هذا السياق وحده يمكن فهم الفعل الثوري في تونس ثم مصر في 2011 خاصة في ظل غياب أي انقسامات طائفية أو عرقية أو قبلية في المجتمعين.
وبهذا يمكن فهم المسارات السياسية التالية على الثورة في البلدين، والأحرى التركيز على الأدوار التي لعبها الفاعلون المختلفون في كلا البلدين، وعن كيفية تكوين الخيارات لدى كل فاعل مؤثر، وليس من قبيل المبالغة الحديث عن أن الاختلاف الرئيسي بين مصر وتونس ليس في إجراء الانتخابات والقبول بنتيجتها، بل إن الاختلاف يكمن في توصل النخب التونسية لدستور "توافقي" يقلل من مخاطر نقل السلطة بعد الانتخابات في المقام الأول، وهو عكس ما جرى في مصر حرفيا بالتعجيل بتسليم السلطة قبل الاتفاق على الحدود الدنيا من الحقوق والحريات في ظل اختلافات واسعة وعميقة حول هوية الدولة ودورها المستقبلي، ما أسهم في تعظيم مخاطر نقل السلطة لدى الجميع، ومهد لجعل هدم المسار السياسي الذي بدأ في 2011 خيارا له ما يبرره في نظر الكثيرين.