هذا المقال كتبه عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
على تباين نظم حكمها وطبائع سلطاتها التنفيذية بين اقتراب من نماذج ديمقراطية وبين ابتعاد عنها، على اختلاف حقائقها الديموغرافية وحظوظها من الثروات الطبيعية وسماتها الاقتصادية والاجتماعية والخرائط الإقليمية المحيطة بها ومستويات نفوذها العالمي، على رسوخ مؤسسات وأجهزة الدولة وتوازن مجتمعاتها المدنية (الدولة القوية-المجتمع القوي) في بعضها وهشاشة الدولة والمجتمع في بعضها الآخر (الدولة الضعيفة-المجتمع الضعيف) والحالات البينية التي ترسم ملامحها إما دول تختزل مؤسساتها وأجهزتها القوة إلى قمع للمجتمع أو مجتمعات تتغول طوائفها وأعراقها ومصالحها، على دول تتآكل سيادتها وتنهار شرعيتها؛ تعمد الكثير من بلدان عالمنا المعاصر حين تتكالب عليها الأزمات إلى صياغة الخطط ووضع الحلول وإعداد الوثائق بأهداف تتفاوت بين إدارة الأزمة وبين التجاوز الكامل لها وبين الاحتواء وبين إطلاق طاقات المواطن والمجتمع والدولة باتجاه التنمية والتقدم. والخطوة الأولى هنا هي تحديد العناصر الأساسية للأزمات، إن كانت من قبل مؤسسات وأجهزة الدولة أو تنظيمات المجتمع الوسيطة أو المواطن المهتم، ثم إدارة نقاش عام هادئ ورشيد بشأنها. وهاكم تحديدي الأولي لعناصر الأزمة المصرية والعوامل المؤثرة بها:
- تزايد أعداد شهداء القوات المسلحة والشرطة والشهداء المدنيين الذين يسقطهم الإجرام الإرهابي في مصر، وارتفاع أعداد المصابين، وتكرر المشاهد المؤلمة للنعوش الملتحفة بالعلم وللأسر المكلومة وللمواكب الجنائزية الشعبية.
- تحولات نوعية متسارعة ترد على فعل تنظيمات الإرهاب والعنف، معها تتسع ساحات مواجهة مؤسسات وأجهزة الدولة لإجرامها من سيناء والحدود الغربية إلى مياه مصر الإقليمية في البحر الأبيض المتوسط ومعها أيضا تتجه التفجيرات الإرهابية إلى استهداف البنى التحتية التي يعتمد عليها الناس في إدارة حياتهم اليومية (وسائل الانتقال والمواصلات) ونقاط الكثافة السكانية كما تواصل استهداف التجمعات العسكرية والأمنية.
- عوامل كالانفجارات الإقليمية المتتالية في ليبيا واليمن والعراق وسوريا ولبنان وكحالة السيولة المجتمعية والأمنية البالغة التي تتصف بها بلاد العرب وكتضارب سياسات القوى الدولية وأطراف مؤثرة كإيران وتركيا بين مواجهة لبعض التنظيمات الإرهابية ودعم لبعضها الآخر تعصف بتماسك الدول الوطنية وتهدد السلم الأهلي للمجتمع وتفرض الخوف والقلق على المواطن، وليست مصر ببعيدة عن كل ذلك.
- ذات العوامل تمكن تنظيمات الإرهاب والعنف من تجاوز حدود الدول الوطنية، والاحتفاظ بخطوط "للموارد" البشرية والمالية والتنظيمية تمتد عبر بلاد العرب وتتحدى فيما خص مصر مؤسسات وأجهزة الدولة التي لم تعتد خلال العقود الماضية (منذ ثمانينيات القرن العشرين) على العمل بكثافة خارج الحدود.
- بيئة داخلية متأزمة تعاني من تراكم ظواهر الفقر والبطالة وانهيار مستويات الخدمات الأساسية والإهمال والفساد والهوة السحيقة التي تفصل بين الأغنياء والقادرين وبين الفقراء ومحدودي الدخل وتدهور معدلات الأداء الاقتصادي والمالي في القطاعين العام والخاص، وفي الواجهة سلطة تنفيذية تسيطر بمفردها على مؤسسات وأجهزة الدولة ولم تصغ بعد خطة تنموية واضحة الملامح أو تحدد انحيازاتها بشأن ملف العدالة الاجتماعية وإدارة الشأن الاقتصادي والمالي وبالقطع (وباستثناء بعض أصحاب المصالح الخاصة الكبرى) لم تنفتح تفاوضيا على قوى المجتمع وفعالياته أو على تنظيماته الوسيطة كالأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية لإشراكها في الأمر.
- بيئة داخلية متأزمة تعاني من تراكم للمظالم وانتهاكات للحقوق وللحريات ومن صراعات صفرية تتورط بها السلطة التنفيذية إزاء قطاعات طلابية وشبابية وشعبية مختلفة وإزاء التنظيمات الوسيطة بعد أن هيمنت المعالجات الأمنية وأميتت السياسة ونحيت مسارات التحول الديمقراطي جانبا، وفي الواجهة تقنين تمارسه السلطة للاستثناء وللقمع واستخفاف رسمي بالانتهاكات وخطاب إعلامي عام وخاص يبرر للخروج على سيادة القانون وعلى ضمانات الحقوق والحريات باستدعاء ضرورات مواجهة الإرهاب والعنف.
- بيئة داخلية متأزمة تعاني من اختزال مؤسسات وأجهزة الدولة لمواجهة الإرهاب والعنف في الأدوات العسكرية والأمنية وتغييب الأدوات القانونية والتنموية والمجتمعية، ومن الفشل في تطوير حالة تضامن وشراكة حقيقية بين المواطن والمجتمع والدولة مقوماتها اكتساب سكان سيناء ومناطق الحدود الغربية إلى صفوف المقاومة الفعالة للإرهاب عبر الحوار والقضاء على نواقص الحقوق والحريات والخدمات التي يعانون منها وحشد طاقات التنظيمات الوسيطة، والجمعيات الأهلية لتخليص مصر من شرور الإرهاب والعنف وتحصين المواطن إزاءها عبر إيقاف الهجمة السلطوية الراهنة على المجتمع المدني، وتمكين المواطن في المجال العام والجامعة وساحات العمل من مقارعة التطرف بالمعرفة والعلم والتسامح وبحرية التعبير عن الرأي - دون خوف من قمع أو تعقب أو قيود أو احتجاز بسبب حديث في مقهى أو قراءة لرواية تواجه نظم الحكم الديكتاتورية بحقيقتها دون رتوش.
- بيئة داخلية متأزمة تعاني من سطوة الرأي الواحد والصوت الواحد على نقاشات عامة انقطعت بينها وبين قيم التداول الحر للمعلومات وللحقائق وقيم المعرفة والعلم والعقل والفكر الرشيد كافة خطوط التواصل والتماس، ومن توجهات للرأي العام صار بعضها يسهل استثارته ودفعه إلى استساغة المكارثي والفاشي والانتقامي والسطحي من المقولات على نحو يعيد التأسيس الخطير لقدسية فعل السلطة التنفيذية والرأي الواحد والصوت الواحد، يروج لهما كتعبير عن تفضيلاتها واختياراتها وينزع أيضا الانتماء الوطني عن أصحاب الآراء المغايرة والمغردين خارج السرب/القطيع.
هذه بعض العناصر الأساسية لأزمتنا الراهنة في مصر، يغني كل من تنوعها وتعقد خطوطها عن صياغة خاتمة تقليدية للأسطر السابقة تحمل بالمطالبة بتجاوز اختزال المعالجات في الأدوات العسكرية والأمنية والدعوة إلى شراكة بين المواطن والمجتمع والدولة ،عمادها القانون وضمانات الحقوق والحريات والمسار الديمقراطي والتوحد في مواجهة الإرهاب والعنف. تنوع وتعقد خطوط عناصر الأزمة المصرية الراهنة يلزمان أيضا بتفعيل التفكير الجماعي والنقدي بين مؤسسات وأجهزة الدولة، وبين التنظيمات الوسيطة في الساحة الحزبية وفي المجتمع المدني بهدف وضع استراتيجية متكاملة للاحتواء وللحل، ولنا في مفاوضات وتوافقات الحكم/المعارضة والدولة/المجتمع المدني، وفي الحوارات مع قطاعات شعبية مختلفة التي أخرجت خلال السنوات الماضية بلدان مثل البرازيل وبولندا وماليزيا وإندونيسيا وغانا من أزمات كبرى عصفت بكياناتها الوطنية الكثير من العبر الممكنة.