هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
خلال أقل من أسبوع انعقدت في بكين قمة لقادة 21 دولة في مجموعة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والباسيفيكي، وقمة ثنائية سبق انعقادها اجتماع قمة بكين طرفاها الرئيسان باراك أوباما وشى جينبينج. وبعد بكين انعقدت قمتان في ميانمار، قمة لدول مجموعة الآسيان، أي رابطة دول جنوب شرق آسيا، وفى سياقها انعقدت قمة دول شرق آسيا. وفي النهاية انعقدت في مدينة بريزبين في استراليا قمة مجموعة العشرين.
***
لا أبالغ إن قلت إن بكين كانت بين هذه القمم القمة الأهم شكلا وترتيبا وجوهرا وأثرا على مجمل الحياة السياسية الدولية. ببساطة شديدة كانت هذه القمة جهدا إضافيا ينضم إلى الجهود المبذولة منذ عقدين على الأقل نحو بناء نظام دولي جديد. تهدف هذه الجهود، وآخرها المفاوضات التي حضرت لقمة بكين الثنائية، إلى تحقيق أمرين أساسيين يصعب على المسئولين في الدولتين التصريح أو الاعتراف بهما، الأمر الأول يتعلق بالتوصل إلى فهم متبادل حول مسألة توزيع المغانم بين قطبي النظام الدولي تحت الإنشاء وتحديد المسئوليات الدولية الملقاة على عاتقيهما. أما الأمر الثاني فيتعلق بوضع مقاييس لتقدير مستوى "القوة الحقيقية" والنفوذ الدولي لكل طرف من الطرفين الساعيين للمشاركة في قيادة هذا النظام الدولي الجديد. هذان الهدفان ليسا جديدين على العلاقات الدولية. ففي كل مرحلة سبقت التحول من نظام دولي إلى آخر اجتهدت الأطراف المرشحة للقيادة للتوصل إلى إجابات تكون أقرب ما تكون إلى الحقيقة، بحيث يمكن وضع القواعد اللازمة لإدارة النظام الدولي وتحديد حجم ونوع المسئوليات والأعباء المحتملة والحقوق العائدة نتيجة حيازة مستوى من القوة والنفوذ يفوق مستوى كافة الأطراف الأخرى.
***
كانت مثيرة تحركات الطرفين، الصيني والأمريكي، خلال الأيام والساعات السابقة على انعقاد القمة. كان سرا معلنا، أن المسئولين في الدولتين قد استعدا على امتداد شهور عديدة، وربما سنوات، لمفاوضات تسبق هذه القمة تحديدا، يتوصل بعدها الرئيسان إلى اتفاقات والتزامات، بعضها صريح وحاسم، والبعض الآخر يلتزمه الطرفان ضمنيا بخطوطه العريضة. كان المتوقع بطبيعة الحال أن يتفاوض الطرفان مستندين إلى حسابات الأوضاع القائمة وقتذاك. لم يضع المفاوضون في كلا البلدين في حسابهما احتمال وقوع أحداث أو تطورات تغير ولو نسبيا من وزن طرف من طرفي المفاوضات.
***
كان أول ما خطر على ذهني عند سماع أول خبر عن مظاهرات الشباب في هونج كونج قبل حوالي شهرين، هو السؤال عن وقع هذه المظاهرات في نفوس المتفاوضين في واشنطن وبكين الذين يمهدون لقمة بكين. في ظني، أن هذه المظاهرات أضعفت بشكل ملموس موقف المفاوضين الصينيين في مواجهة أقرانهم الأمريكيين، ومع ذلك كان حرص واشنطن في تلك الأيام واضحا على تفادي تعريض المفاوضات لخطر التوقف من جانب الصين، لو شنت الدبلوماسية الأمريكية وأجهزة الإعلام مواقف عدائية من سياسات حكومة بكين تجاه المتظاهرين. لم نلاحظ شماتة من جانب الأمريكيين كشماتتهم خلال مظاهرات المعارضة الروسية ضد ترشيح فلاديمير بوتين.
***
بالمثل، كان أول ما خطر على بالي عند سماع نتائج الانتخابات التشريعية في الولايات المتحدة في مطلع هذا الشهر سؤال مماثل. هل فوز الجمهوريين وافتضاح ضعف شعبية الرئيس أوباما وأفراد طاقمه الحاكم سوف يعقدان مهمة الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يفاوضون الصين ويجسون نبضها؟ هل طفت بعد ظهور النتائج احتمالات تنبئ بأن الصين قد تغير مواقفها حول قضايا الشراكة القادمة في قيادة العالم، بدءا بقيادة آسيا والباسيفيكي؟.
***
لقد أساءت مظاهرات هونج كونج إلى مكانة الحزب الشيوعي الصيني والقيادة الحاكمة في بكين، وكذلك أساءت نتائج الانتخابات الأمريكية إلى مكانة الإدارة الأمريكية وأوباما شخصيا. ظهرت النتائج في وقت كانت الدبلوماسية الأمريكية تستعد لمفاوضات في مرحلة مصيرية في مسيرة العلاقات الدولية عموما، وفي عملية بناء علاقة بين دولتين يخططان لتقاسم قيادة العالم. هذه التطورات ربما فسرت بعض سلوكيات الدولتين خلال زيارة الرئيس أوباما، وخلال القمتين، الثنائية وقمة الآبيك. المؤكد في النهاية هو أن القمة الثنائية لم تسفر عن توقيع اتفاقات أو معاهدات جوهرية، تمس مباشرة مستقبل الأمن والسلم الدوليين، أو أمن وسلم القارة الآسيوية أو التحالفات الدولية الراهنة. بل وقع الزعيمان على اتفاقات ثانوية، منها مثلا اتفاقية بشأن التزام الطرفين بالمساهمة في حل مشكلة الاحتباس الحراري، واتفاقية تقضي بتسهيل منح التأشيرات لمواطني الدولتين.
***
تأملت طويلا في عناوين هذه الاتفاقات، وفى الخطب والتصريحات المتبادلة. لم أجد فيها ما يقترب من معلومات تسربت قبل شهور عن استراتيجيات التفاوض من البلدين. فهمنا وقتها أن الطرف الأمريكي يأمل في أن يتوصل خلال المفاوضات إلى ما يجعل الطرف الصيني يعلن، ولأول مرة، تعريفه للمصالح الجوهرية للدولة الصينية. تريد أمريكا أن تحصل من الصين على إعلان صريح بأن مصالحها الجوهرية هي مثلا استعادة تايوان، أو أمن وسلامة مقاطعة سنكيانج، أو مواصلة دمج التبت في الثقافة والأمة الصينية، أو الهيمنة العسكرية والاقتصادية على بحر الصين الجنوبي، أو السيطرة على الجزر الصخرية الاستراتيجية في بحر الصين الشرقي، أو كلها معا أو كلها وأكثر. ما يريده الأمريكيون هو أن تضع الصين هذه المصالح في صدارة "آجندات" التفاوض الصينية مع العالم الخارجي، إلا أن الصين التي كانت تمتنع عن مناقشة هذا الموضوع عادت لرفضه بعناد أشد هذه المرة. أتردد في القول بأن ضعف شعبية الرئيس أوباما، سواء بسبب سمعة البطة العرجاء أو بسبب خسارة الديموقراطيين الأغلبية في المجلسين التشريعيين، له صلة مباشرة بفشل الولايات المتحدة في اقناع الصين بضرورة التصريح بمصالحها القومية والجوهرية، ووضعها على أجندة المفاوضات.
***
على الناحية الأخرى، أعتقد أنه كان في نية الصينيين الحصول على اعتراف أمريكي بأن آسيا تتسع لدولتين أعظم، والتزام أمريكي بتغيير نمط قيادتها للنظام الدولي بحيث يصبح أكثر استعدادا للتعامل مع "القطب الصاعد" بالتساوي والاحترام المتبادل. كان واضحا خلال الجولات السابقة للمفاوضات الاستراتيجية بين البلدين أن أمريكا لن تقبل بسهولة هذا الشرط. قد تقبل الاعتراف بدور أكبر للصين في الإقليم وبحقوق تناسب قدراتها الاقتصادية والتجارية والعسكرية المتزايدة، ولكنها لن تخذل عددا من دول جنوب وشرق آسيا وتتركها للصين تمارس هيمنتها عليها. أتصور في الوقت نفسه أن مظاهرات هونج كونج وصداها في الإقليم لم يعززا موقف المفاوض الأمريكي. كان لافتا للنظر مثلا أن أوباما لم يتحدث إلى الرأي العام الآسيوي خلال وجوده في الصين، وقيل إنه أرجأ الخطاب إلى ما بعد انتهاء الزيارة. وبالفعل ألقي الخطاب في بريزبين بأستراليا عشية انعقاد قمة العشرين. وكان قد تردد حول هذا الموضوع أن الصين أبدت حزما في رفض السماح له بمخاطبة شباب الجامعات أو التوجه مباشرة إلى الرأي العام الصيني، خلال القمة الثنائية وقمة الآبيك.
***
تشير مراقبة أداء القطبين الأمريكي والصيني في السنة الأخيرة إلى تفاوت في النظرة الاستراتيجية إلى مسيرة المفاوضات الصينية الأمريكية. من الطبيعي أن يكون هدف أمريكا في هذه المفاوضات اقناع الصين، أو إجبارها، على الاعتراف بأن لأمريكا حقوق هيمنة على الإقليم موروثة من عصر الاستعمار الغربي، تدعمها في هذا الصدد دول أوروبا بما فيها ألمانيا. ومن السذاجة تصور أن المفاوض الأمريكي لا يضع في حسابه حقيقة أن الصين، وآسيا برمتها، تدرك أن أمريكا لم تعد القطب الأوحد بلا منازع.
أما المفاوض الصيني، فمن المنطقي أيضا أن يضع هدفا له التعجيل بالحصول على اقتناع أمريكا بأن مستقبل العلاقات الثنائية والنظام الدولي ستقرره مفاوضات صينية أمريكية قاعدتها "إعتراف أمريكا بوجود صراع دائر منذ فترة بين دولة عظمى صاعدة ودولة عظمى منحدرة".
يأخذ هذا الصراع في واقع الأمر شكل سباق الطرفين لتوسيع نفوذهما الإقليمي في آسيا، إذ بينما تسعى أمريكا لعقد اتفاقية "شراكة عبر الباسيفيك" مع الدول المطلة على الباسيفيكي وتستبعد منها الصين، تسعى الصين من ناحية أخرى ولكن في الوقت نفسه لعقد اتفاقية تجارة حرة باسيفيكية آسيوية. وقد تعهدت الصين بالفعل إلى دول الإقليم الانتهاء من تقديم مشروعها النهائي خلال عامين. تدرك الصين تماما أن مآل جهود أمريكا الفشل بسبب النمو المتزايد في حجم تجارة الصين مع دول الإقليم. بمعنى آخر تبدو الصين مطمئنة إلى أن الدولة العظمى المنحدرة اقتصاديا سوف يستحيل عليها استبعاد الصين من تكتل إقليمي متزايد الاعتماد على التجارة الصينية.
***
تقدم الصين مشروعها للقيادة في آسيا تحت عنوان الحلم الصيني لمنطقة الباسيفيكي وآسيا، وجوهره إقامة "مصرف دولي" للتنمية الاقتصادية، كنموذج أول على قدرة العالم غير الغربي على إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد. تقدمه أيضا تحت عنوان "طريقان للحرير"، طريق تنمية ومشروعات مشتركة وتجارة متدفقة يمر عبر وسط آسيا وينتهي في أوروبا وطريق آخر بالمواصفات نفسها يمر بجنوب آسيا فإفريقيا ثم يتجه شمالا إلى أوروبا. وفي النهاية يصب الطريقان في مدينة البندقية الإيطالية. هذان الطريقان هما الرمز الأشد وضوحا وصراحة على الآفاق الواسعة والمساحات المترامية والقوة الكبيرة التي عرفت بها امبراطوريات الصين قبل وصول الاستعمار الغربي.
***
هناك في بريزبين بأستراليا انعقدت قمة العشرين ختاما لسلسلة القمم الدولية العديدة التي اجتمعت خلال أسبوع واحد. أستطيع، بعد قراءة بياناتها وتصريحات المشاركين فيها وتعليقات المعلقين، أن أقرر باطمئنان أن أوروبا اعترفت ضمنا بأن السباق في آسيا جرى بالفعل حسمه لصالح الصين، ولم يبق للغرب إلا أن يصفي حساباته مع روسيا، المتمرد الجديد على هيمنة الدول الغربية، والداعم القوى للصين، حتى الآن على الأقل، في سباقها مع أمريكا وجهودها في مجال إقامة نظام دولي جديد، نظام يكون الغرب فيه مجرد شريك، ولا أكثر.