هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
من أهم المواضيع التي أرى أنه يجب طرحها فى حوار القوى الوطنية والذي أقترحه الرئيس السيسي على جريدة الشروق "العدالة الانتقالية"، فالمراحل الإنتقالية من أخطر المراحل التى يمكن أن تمر بها الشعوب، وهي تأتى بعد حروب طاحنة أو معاهدة سلام أو ثورة ... إلخ. المهم أن تكون البلاد في ظروف غير معتادة أو طبيعية. وعادة يعيش الشعب كله بجميع فئاته هذه الفترة بكل جوارحه، لأنه يعلم أنه إذا استطاع أن يعبر هذه الفترة بنجاح فسوف يشكل مستقبلاً رائعاً، فيه ينسى الشعب كل ما عانى من قسوة وفوضى أيام الثورة. أما إذا فشلت الفترة الإنتقالية فهذا يعنى إفراغ الثورة من مضمونها، ويحدث نوع من الإحباط واليأس عند الناس.
ربما يقول البعض إنه بثورة 30 يونيو قد استقرت البلاد ونحن لسنا في فترة انتقالية، لكن هذا القول ضرب من الوهم، وطبيعة هذه الفترات ظهور النعرات الطائفية والعرقية، ونحن الآن في أوجها كذلك تظهر مشكلات الحدود مع الدول المجاورة، مع موجة تخوين ثوار 25 يناير وموجة رفض حكم 30 يونيو على طريقة حقوق الإنسان.
شكل هذا يعلن يا سادة أننا مازلنا في المرحلة الانتقالية. وفي أي مرحلة انتقالية لابد أن تحسم ثلاث قضايا في منتهى الأهمية وإلا إبتلعت المرحلة الانتقالية كل إنجاز تحقق، قضية الهوية، قضية الفكر الديني، وأخيرا قضية الوطن والمواطنة.
أولا قضية الهوية :
لأن النعرات الدينية والعرقية تجد مجالاً خصباً فى الفترات الإنتقالية لذلك تم حرق الكنائس وتهجير بعض المسيحيين من قراهم وقتل بعض قيادات شيعية وضغط شديد على البهائيين... إلخ. كل هذه الأمور لم يتم فيها أى تحقيق جاد بل لا يوجد فى هذه القضايا متهمون مما يؤدي إلى فقدان الثقة من الاقليات، ويشجع الخارجين على القانون من الأكثرية أو المتعصبين منهم لمزيد من التطرف والعنف. وقد ثبت أن الحل الأمني يزيد الأمر اشتعالاً، لذلك يجب على الدولة ومؤسساتها الدينية والتعليمية والثقافية تناول قضية اهتزاز الهوية لأشخاص يرفضون مصريتهم وآخرون يرفضون عروبتهم. بل ظهر الآن قطاع عريض يرفض الدين كمكون للهوية. ولأن الهوية قضية شخصية قبل أن تكون طائفية أو دينية أو مجتمعية كنت انتظر من وزارة الإعلام مع وزارة الثقافة والتعليم والمؤسسات الدينية أن يتفقوا على أن هوية مصر فرعونية مصرية دينية (مسيحية بكل طوائفها – إسلامية بكل شيعها – يهودية). وكذلك هناك ديانات أخرى يتبعها بشر لا يقلون مصرية عن غيرهم، وكذلك مصريون لا دينيين... إلخ. وأن يعلنوا ذلك بكل وضوح. هذه النغمة لابد أن تتردد وبقوة، لأن أقسى الجروح التي تصيب جسد الأمة وأعمقها هي جروح الهوية.
أما الأمر الثاني الهام فى المرحلة الانتقالية فهو الفكر الديني:
نتحدث هنا عن القصاص والتسامح وهما قيمتان دينيتان، والحسم هنا سيكون للفكر أو التفسير الديني لهذين المصطلحين والسؤال المطروح هو: هل نعاقب؟ أم نسامح؟ وفي الحالتين كيف نحقق العدالة الناجزة لأن العدل البطيء ظلم بين. وهناك قضايا لم تحسم بعد رغم مرور السنين منها قتل المتظاهرين، قضية بورسعيد (مباراة الأهلي والمصري) قضية ماسبيرو والتي لا يوجد فيها متهم واحد وغير ذلك الكثير، والوضع الآن أننا لم نسامح ولم نعاقب في الوقت الذي فيه نستمع إلى خطاب يؤجج الكراهية على الهواء مباشرة وخطاب معتدل على استحياء، وخطاب متسامح مرفوض من الأغلبية.
عندما يسقط شهيد نسمع المطالبين بالقصاص، وفي مرات نادرة نسمع طلب الصفح والغفران معنى هذا أن النفوس محملة، وعندما لا يجد البشر العدالة ينتقمون لأنفسهم.
هناك ثلاث خطوات هامة يجب إتخاذها :
1 – سن قانون خاص بجرائم المرحلة الانتقالية: لأن هذه الجرائم ارتكبت في ظروف استثنائية مثل الثورة أو الفوضى الاجتماعية، كان لابد من قانون خاص ينص على إمكانية تسامح صاحب الحق، فإذا سامح ولي الدم الجاني ينتهي الأمر.
2 – تكوين محاكم خاصة تطبق مثل هذا القانون تعطى مساحة خاصة للتسامح.
وفي جنوب إفريقيا تجربة لا يجب إغفالها حيث أسسوا قضاءاً خاصاً بقانون خاص لجرائم المرحلة الانتقالية، تسير القضية في مجراها الطبيعى ويحكم القاضى على الجاني ثم في جلسة خاصة تستدعى عائلة المجني عليه لتجلس مع الجاني ومعهما رجل دين أو أكثر، وبعد حوار يتقدم الجانى إلى المجني عليه طالباً المسامحة فإذا سامحه المجني عليه يطلق حرا وإذا رفض يطبق عليه الحكم فورا.
ولقد سبق هذه الإجراءات وأثناء المحاكمات دعوى ضخمة إلى الحب والتسامح قام بها رجال دين وثقافة.
3 – تحدد مدة معينة للإنتهاء من قضايا المرحلة الانتقالية.
أما القضية الثالثة فهي قضية الوطن والمواطنة:
نرى أيضا في تجربة جنوب إفريقيا بعض الفائدة، فعندما وصل مانديلا للحكم عام 1994 أراد أن يبنى بلده لتصير دولة قوية تحقق الحد الأدنى للمعيشة وتصنع نهضة إقتصادية وتطوراً إجتماعياً سياسياً. ولقد حرص على عدم جر البلاد لأي نوع من الفتنة، أراد أن يطبق النظام الاشتراكي الديمقراطي (الإنتاج والعدالة) رفض أن يدمر الأجهزة القائمة (جيش – الشرطة – القضاء) لأنهم من العهد البائد بل اعتبرهم جزءاً من الدولة الجديدة. كذلك ترك الرأسماليين والإقطاعيين قائلا إنه لن يذبح البقرة ليأكل الأبناء، كما حدث عندنا من محاولات لهدم الأنظمة القائمة واصطدام السلطات بعضها ببعض وابتزاز الأغنياء... إلخ.
نحتاج اليوم وقبل الغد أن نرى استراتيجية واضحة تنقل البلاد من التوتر وغموض المستقبل إلى الإستقرار بتوضيح منهجية الحكم ورؤيته من خلال هذه القضايا الثلاث : الهوية – الفكر الديني – الوطن والمواطنة.