هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
الربيع العربي لم ينته، وكل الذي حدث أنه هزم في بعض جولات تقدمه.
(1)
أتحدث عن صدمة البعض وشعورهم باليأس حين أعلنت براءة الرئيس الأسبق حسنى مبارك وأعوانه في مصر، والذين انتابهم نفس الشعور حين أعلن فوز حزب الثورة المضادة فى الانتخابات التشريعية التونسية، وظهور علي عبدالله صالح كأحد اللاعبين الرئيسيين فى الساحة اليمنية، والاحتراب الأهلي فى ليبيا. ذلك غير عجز الثورة السورية عن إسقاط نظام الأسد طوال السنوات الأربع الماضية، والظهور المريب لتنظيم داعش الذي دخل إلى الساحة كي يفسد المشهد كله في الشام.
أتحدث أيضا عن الذين احتشدوا لإفشال الربيع العربي وإجهاض مسيرته إما تضامنا مع حلفائهم أو دفاعا عن أنفسهم أو الاثنين معا. ففتحوا خزائنهم وحشدوا منابرهم الإعلامية واستدعوا عناصر الدولة العميقة من مكامنهم، وأطلقوا حملات التعبئة التي سممت أجواء الربيع وأعلنت الحرب على التاريخ. فكانت الانتكاسات والهزائم التي سربت القنوط إلى نفوس كثيرين، الأمر الذي سوغ للبعض أن يعلن على الملأ وفاة الربيع العربى وطي صفحته. ومن ثم صبوا عليه اللعنات وأهالوا على وجهه الأوحال ونعته بمختلف أوصاف الشماتة والهجاء، التي كان أخفها أنه كان خريفا وخرابا عربيا.
لا أنكر شواهد الفشل والانتكاسات التي حفلت بها مسيرة الربيع العربي، كما أن الانتصارات التي حققتها الثورة المضادة ماثلة تحت أعيننا ولا سبيل لتجاهلها أو إنكارها بدورها، لكنني أزعم ان هذا كله وذاك لا يعني بالضرورة نهاية الربيع العربي إذا احتكمنا إلى تحليل الواقع وخبرة التاريخ. وإذا اعتبرنا ما مررنا به درسا نتعلم منه ما يبصرنا بأخطائنا ومواطن الضعف فينا، وليس نعيا لتطلعات شعوبنا وأحلامها.
(2)
قبل أسبوعين قدم إلى القاهرة أحد الباحثين الإندونيسيين المرموقين هو البروفيسور سالم سعيد الذي يقوم بالتدريس في كلية الدفاع بجاكارتا، وكان الهدف من زيارته هو دراسة التحولات التي شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير، وانتهت بعزل الدكتور محمد مرسي وانتقال السلطة إلى مرحلة مغايرة بعد الثالث من يوليو عام 2013، ولأنه متخصص في دراسة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية وبصدد إعداد كتاب عن التجربة المصرية، فإنه التقى عددا من المثقفين المصريين. وطرح على الجميع قائمة من الأسئلة التى تعلقت بما جرى وتحليله. وكانت أهم خلاصة خرج بها ان نقطة الضعف الأساسية في التجربة المصرية بعد ثورة يناير 2011 تكمن فى هشاشة المجتمع المدني بمختلف مؤسساته السياسية والنقابية والمهنية، الأمر الذي أحدث فراغا هائلا فى الساحة السياسية، كانت المؤسسة العسكرية هي الوحيدة القادرة على ملئه. وقد اعتبر ان ثمة تماثلا بين الخبرتين الإندونيسية والمصرية في هذا الصدد. ذلك ان الجنرال سوهارتو الذي تولى السلطة في عام 1967 وأمضى أكثر من ثلاثين عاما في منصبه ــ كما حدث مع مبارك ــ شاع فيها الفساد مع الاستبداد الذى فرغ البلاد من قواها المدنية. ولم يستقل إلا بعدما انطلقت الانتفاضة الشعبية ضده. لكن حكمه جعل المجتمع المدني في حالة من الضعف مماثلة لما آلت إليه الأوضاع فى مصر. وقد عاشت إندونيسيا فى ظل ذلك الفراغ بعض الوقت، ولكن نائبه الدكتور برهان الدين حبيبى الذي كان أستاذا جامعيا أدار الفترة الانتقالية بكفاءة وضعت إندونيسيا على المسار الديمقراطي الصحيح الذي أنعش المجتمع المدنى وحصن البلاد ضد التقلبات والمغامرات السياسية، ولأن البروفيسور سعيد كان قد تابع جانبا من التجاوبات الحاصلة بين الأحزاب السياسية المصرية بشأن ترتيبات الانتخابات التشريعية القادمة، فقد اعتبر ما رآه دليلا على عمق الفراغ فى الساحة السياسية، الذي لا سبيل إلى تجاوزه إلا باستعادة المسار الديمقراطي بصورة جادة مع الاستعداد لاحتمال ثمن الدخول فى تلك المرحلة، التي لن يتحقق فيها النجاح إلا بعد المرور بمحطات الفشل واجتيازها.
أدري أن دروس التجربة المصرية تحتاج إلى مناقشة أوسع لا تحتملها أجواء الاستقطاب الراهنة، التي هي من علامات افتقاد المجتمع المدني إلى الرشد وتغليب المصالح العليا التى تتجاوز الانتماءات باختلاف أشكالها. إلا ان النقطة التي أثارها الباحث الإندونيسي لها أهمية خاصة، وربما كانت تمثل إحدى العلامات الفارقة بين النجاح النسبي الذي حققته الثورة في تونس والفشل النسبي الذي أصابها في مصر.
(3)
على صعيد آخر فإننا نخطئ في قراءة الربيع العربي بحسبانه انتفاضة من شأنها إسقاط لأنظمة وإقامة لأنظمة بديلة بذات القدر فإننا نخطئ إذا حاكمناه بسلوك القابضين على السلطة أيا كانوا، ذلك انني أزعم ان الربيع فى حقيقته هو بمثابة روح جديدة سرت فى جسد الأمة، عبأتها بالرغبة في التغيير والثورة على الظلم السياسي والاجتماعي. وهي من هذه الزاوية تعد تحولا تاريخيا لا يتوقع انجازه خلال عدد محدود من السنوات. ونحن لا نعرف في التاريخ المعلوم ثورة سريعة كاملة الأوصاف انجزت التحول الديمقراطي بقليل من التكاليف وبكثير من التسامح والوفاق. بذات القدر فلم تحدثنا خبرات الأمم على مدار التاريخ عن ثورة مضادة كانت أقل حدة وغلوا من الثورة الأصلية، ولكن العكس هو ما حدث. لأن التجارب التاريخية أكدت أن الثورات المضادة عادة ما تكون أكثر خطورة وعنفا وأسوأ من الواقع الذي سبق الثورة، وهو أمر مفهوم، لأنه من الطبيعي ان يشتد خوفها من خسارة المكاسب الكبيرة التى راكمتها على مدار سنين طويلة.
ولعلم الجميع فما من ثورة فى التاريخ إلا واعقبتها ثورة مضادة اتفقت في الهدف واختلفت في الدرجة. ولعلي أعيد التذكير فى هذا الصدد بأن آل البوربون عادوا إلى عرش فرنسا بعد عقدين ونصف عقد على اندلاع الثورة الفرنسية. واستطاع شاه إيران العودة إلى الحكم بعد ثورة مصدق واستطاعت الثورة المضادة في تشيلي برئاسة الجنرال أوجستو بينوشيه الانقلاب على حكم سلفادور الليندى الذي وصل إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع.
أكثر من ذلك، فعادة ما تكون نسبة نجاح الثورات المضادة كبيرة، بسبب امتلاك الأنظمة لأدوات القمع، وقدرتها على تجنيد الفئات الاجتماعية المستفيدة منها، فضلا عن قدرتها على ضرب القوى الاجتماعية الفاعلة ببعضها البعض نتيجة اقتحامها للبنى الاجتماعية. وبسبب احتكارها للسلطة والثروة فإن ذلك يوفر لها خبرة أوسع بالخرائط الاجتماعية وكيفية اختراقها واستمالتها، إلى جانب أن ذلك الاحتكار يوفر لها مصادر للتمويل تمكنها من الانفاق بشكل باذخ على المعارك التى تخوضها على مختلف الجبهات.
(4)
الأستاذ الجامعي الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ» له كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان «النظام السياسى والتآكل السياسي». تعرض فيه للربيع العربي وما أسفر عنه من «نتائج مؤسفة». حتى الآن ــ على حد تعبيره ــ ومما قاله إن كثيرين من الغربيين خصوصا الأمريكيين منهم والإسرائيليين، عبروا عن استيائهم لذلك، واعتبروا ان الأوضاع في العالم العربي كانت أفضل قبل حلول ذلك الربيع. وقال آخرون إن الربيع جلب أنظمة إسلامية زادت من مشكلات المجتمعات العربية، وفى رده على هؤلاء قال فوكوياما: ان الذين يتحدثون عن المشكلات وينتقدون الربيع العربي ينسون أن «ربيع أوروبا» كان طويلا ومعقدا وفوضويا أحيانا. ذلك ان استقرار الديمقراطية والتمكين لها في أوروبا اقتضى مرور قرن كامل على ربيع الشعوب في عام 1848 (الثورة الفرنسية). أضاف الكاتب قائلا إنه لابد من مضي وقت طويل وفوضوي أحيانا لكي تستقر القيم الديمقراطية في العالم العربي وتدرك المجتمعات أهمية الانتخابات الحرة واحترام رأي الأغلبية والحاجة إلى تداول السلطة، ذلك أن زراعة ورعاية بيئة ثقافية تحترم الحرية ليست أمرا سهلا.
ثمة نقطة أخرى تهمنا في السياق الذى نحن بصدده أثارها أحد كتاب صحيفة «لوموند» الفرنسية ــ ارنو لوبا مانتييه ــ إذ ذكر ان المسار الديمقراطي يتقدم باطراد فى أنحاء العالم، إذ فى الفترة بين عامى 1970 و2008 تضاعف حجم ثروات العالم أربعة أضعاف. وفى عام 1974 اقتصر عدد الدول التى التزمت بالتطبيق الديمقراطي على 40 دولة فقط، لكنه وصل الآن إلى 120 دولة، إلا أن العالم يمر الآن بما يمكن وصفه بـ«الركود الديمقراطى»، على حد تعبير لارى دايموند الخبير فى شئون الديمقراطية والأستاذ في جامعة ستانفورد الأمريكية.
الركود الديمقراطى يعد أحد الظواهر المرصودة في العالم العربي الذى أصبحت فيه الخيارات الديمقراطية ضعيفة الصلة بالليبرالية، وسواء كان ذلك راجعا إلى التركيبة الاجتماعية متعددة الهويات المهيمنة في العالم العربي، أو إلى «الربيع النفطي» الذي أدى إلى تهميش فكرة الديمقراطية وإضعافها أو إلى الاستقطاب الذي قسَّم النخبة وعطل دورها، فالشاهد ان هذه كلها أوضاع قابلة للتغيير ولا يمكن اعتبارها جدارا يصعب اختراقه يحول دون تحقيق الربيع العربي لأهدافه المنشودة، خصوصا إذا استعادت الجماهير وعيها وتحملت النخبة مسئوليتها التاريخية إزاء شعوبها.
أدري ان هجوم الثورة المضادة شديد وشرس وان عناصره تملك من الخبرات والإمكانيات والدعم الإقليمي الذي يوفر لها فرص التقدم والنجاح، ثم إننا لانستطيع أن نتجاهل دور المنابر الإعلامية المعبرة عن تلك الثورة، التي حققت نجاحا مشهودا في تشويه الرأي العام وتخويف جماهيره. وهو ما لمسناه بوضوح في تونس، حين نجحت عمليات التشويه والتخويف على نحو جعل الأغلبية تصوت لحزب الثورة المضادة في جولة الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويعزف بدرجات متفاوتة عن تأييد المناضلين الذين تمردوا على استبداد النظام السابق وضحوا بالكثير دفاعا عن حق الجماهير في الحرية والديمقراطية.
كل ذلك صحيح، لكن الأصح منه أن رحلة التحول الديمقراطي طويلة وشاقة وان الربيع العربى صنعته إرادة الشعوب ولم تصنعه الزعامات ولا الأحزاب، وقد علمتنا خبرة التاريخ أن إرادة الشعوب لا تقهر وان أي تشويه لتلك الإرادة يظل خبثا طارئا لا دوام له.