هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لا تعد القوانين التى تنظم العملية الانتخابية مجرد أطر حسابية فنية لتوزيع المقاعد البرلمانية على المتنافسين، ولكنها تحوي أبعادا أخرى سياسية قد تغير من خريطة الحياة النيابية ومن ثم شكل النظام السياسى ككل. ذلك أن تقييم أى نظام انتخابي وما يشتمله من طريقة تقسيم الدوائر وحساب النتائج يعتمد على معيارين أساسيين: الأول هو معيار الأصوات المهدرة، أى تلك التى حصل عليها المرشحون، ولكنها لم تترجم فى شكل مقاعد برلمانية. والثاني هو معيار الفرص المتساوية لكل المترشحين سواء كانوا أفرادا أو أحزابا. وبالتالي فإن النظام الانتخايى الجيد هو النظام الذي يتمكن من تقليل عدد الأصوات المهدرة ويوفر مساواة نسبية بين المتنافسين.
ما رأيكم فى المثال التالي؟: دخل حزب سياسي الانتخابات البرلمانية وحصد ٢٥٪ من إجمالي أصوات الناخبين على مستوى الدولة ككل، ثم انتهى به الأمر بحصوله على ٣.٥٪ فقط من إجمالى مقاعد البرلمان. هل هذا النظام عادل؟ بالقطع لا، فهذا الحزب خسر ما يزيد على ٩٠٪ من إجمالي الأصوات التي حصل عليها، أي أنها لم تترجم إلى مقاعد وذهبت هباء. هذا ليس مثال تخيلي، ولكنه حدث في الانتخابات البرلمانية التي جرت في المملكة المتحدة حيث إن التحالف الانتخابي بين حزبي الديمقراطي الاجتماعي والليبرالي انتهى به الأمر حاصدا ٢٥.٤٪ من إجمالي أصوات الناخبين على مستوى المملكة، ولكنه لم يتمكن من الحصول سوى على أقل من ٤٪ من إجمالى مقاعد البرلمان بسبب النظام الانتخابى المتبع هناك. يسمى هذا النظام «الأول يكسب» First Past The Post. ترجمة ذلك الإهدار بسيطة، فالحزب حصد المركز الثاني فى العديد من الدوائر الانتخابية، ولكنه خسر مقاعدها جميعا. السبب لأن النظام الانتخابي يأخذ أصحاب المراكز الأولى فقط مهما كان عدد الأصوات التي حصدتها. تسبب ذلك فى وضع آخر شاذ حيث إنه في نفس السنة حصد حزب المحافظين ٤٢.٤ ٪ فقط من إجمالى الأصوات، ولكنه حصل على ما يزيد على ٦٠٪ من مقاعد البرلمان. هكذا استطاع أن يشكل الحكومة منفردا في إهدار فج للفرص الانتخابية، وفي ترجمة مغلوطة للإرادة الانتخابية!
***
إذا ما انتقلنا إلى الحالة المصرية فإن الأوضاع تبدو كارثية بلا مبالغة، وستفضي حتما إلى إهدار الأصوات الانتخابية. هذا الإهدار يعني تزوير الإرادة الشعبية قانونا دون الحاجة إلى الأساليب التقليدية للتزوير. وبمراجعة قانون مجلس النواب الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلى منصور، وحذرنا منه في حينها ولم يستجب أحد، وكذلك بمراجعة مشروع تقسيم الدوائر الانتخابية الذي ينتظر الآن اعتماده من رئيس الجمهورية، نجد أننا أمام نظام مسخ لا يضاهيه نظام آخر في العالم بحسب اطلاعي. وبمقارنة القانونين المذكورين مع فصل النظم الانتخابية الذى يتم تدريسه لطلاب قسم العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، والذى صدر في ٢٠١١، وقمت بتدريسه لطلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة في هذا الفصل الدراسى الأخير، يمكنني إبداء الملاحظات الموضوعية التالية:
أولا: في حين يتبع النظام المصري نظريا النظام المختلط، وهو ما يعني الجمع نظريا بين أشهر نظامين انتخابيين فى العالم، وهما نظام الأغلبية ونظام التمثيل النسبي، فإن النظام المصري مال بشدة إلى نظام الأغلبية المعروف في مصر عرفا بالنظام الفردي، حيث إنه يخصص ما يقرب من ٧٥٪ من مقاعد البرلمان للدوائر الفردية بكل مساوئها المعروفة فى مصر والعالم، بينما تم تخصيص ٢٥٪ فقط لنظام القوائم (غير النسبية) في فلسفة غريبة وغير مفهومة وغير مبررة تعيدنا إلى غلبة المال السياسى والعصبيات والقبليات مجددا.
ثانيا: يعتبر خدعة كبرى القول أن النظام المصري نظام «مختلط». لذلك تمسكت أن أذكر لفظة «نظريا» فى الملاحظة الأولى، فالنظام المصري المعمول به حاليا هو واقع الأمر نظام «تلبيسي» تأدبا وبالعامية المصرية نظام «عك». ليس في ذلك إجحافا خاصة حينما تعرف أن كل النظم المختلطة تعني أنها تجمع بين نظامى «الأغلبية» الذي يقوم بصيغ مختلفة على إعطاء أصحاب المراكز الأولى من المتنافسين الفرديين المقاعد البرلمانية وبين نظام «القوائم النسبية»، الذي يعطي أكبر قدر من المقاعد للقوائم التى تمثل أحزابا ميزة «النسبية». أي يحاول أن يقلل أصواتها المهدرة، تلك المشكلة الكبرى التى تعترى نظم الأغلبية، بحيث أن القائمة التى تحصد مثلا ٢٠٪ من أصوات دائرة انتخابية بها عشرة مقاعد تحصل على مقعدين، أما تلك التي تحصد ٣٠٪ من الأصوات تحصل على ثلاثة مقاعد فى نفس الدائرة وهكذا. أي أن الأحزاب الصغيرة والمتوسطة والجديدة تظل في المنافسة وتظل قادرة على المشاركة فى التشريع ورقابة الحكومة. أما النظام المصري فقد فرغ نظام القوائم النسبية من تلك الميزة حينما جعلها أيضا معتمدة على «الأغلبية». وهنا الخدعة. فالقائمة التى تحصد الـ٥٠٪+١ من إجمالى الأصوات الصحيحة ستحصل على كل المقاعد المخصصة، بينما تخسر كل القوائم الأخرى أصواتها ولا تحصل حتى على مقعد واحد. وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن القانون المصري لا يقصر القوائم على الأحزاب وإنما يفتحها على مصراعيها أيضا للمستقلين وأن رئيس الجمهورية سيقوم بتعيين ٢٧ عضوا فيكون تعليقنا، «لا تعليق».
ثالثا: سيزيد العجب حينما نعرف أنه لا تساوي ولو حتى نسبي بين المقاعد المخصصة للقوائم القائمة على الأغلبية لا على النسبية، فهناك قائمتان بهما ٤٥ مقعدا وأخريتان بهما ١٥ مقعدا فقط فى عدم تجانس فج بين الدوائر الانتخابية وبين جمهور الناخبين. وسيزيد عجبك أكثر وأكثر حينما تعرف أنه في كل دول العالم التي تأخذ بالنظام الفردي المشار إليه مسبقا فإنها تعتمد أسلوبا محددا فى احتساب النتائج وذلك للمساواة بين المرشحين، فهي إما أن تأخذ بنظام «الأول يكسب» على علاته كما هو الحال مثلا في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، أو أنها تأخذ بنظام الجولتين مشترطة أن الحائز على المقعد يحصد ٥٠+١٪ على الأقل من الأصوات الصحيحة، وهو النظام المتبع فى فرنسا والذي تم اتباعه أيضا في مصر لسنوات طويلة، أو أن تأخد بنظام الصوت البديل مثلما كان الحال في أستراليا أو الصوت الفردي غير المتحول كما هو الحال الآن في تايوان أو حتى ١٩٩٣ فى اليابان، ولكن مصر جمعت بين أكثر من نظام حتى داخل المقاعد الفردية! فهناك دوائر فردية خصص لها مقعد واحد، وغالبا ستعتمد على أسلوب الجولتين، بينما هناك دوائر أخرى تم تخصيص لها مقعدين بل ونوع ثالث من الدوائر تم تخصيص ثلاثة مقاعد له.
***
ولا أعلم أي فلسفة تلك التي تجمع بين كل هذا فى احتساب الدوائر الفردية لما في ذلك من فجاجة فى إهدار الأصوات وعدم المساواة فى وزن المقعد النيابى، فمثلا التنافس فى الدائرة الفردية مركز «ناصر» بمحافظة بني سويف والمخصص لها مقعد واحد غالبا سيجري التنافس فيها بنظام الجولتين، وهو ما يختلف جذريا عن شكل التنافس وطريقة احتساب الأصوات فى الدائرة الانتخابية بمركز» ببا» بنفس المحافظة والمخصص لها مقعدين لأنها غالبا ستجرى الانتخابات بها على جولة واحدة بينما سيتم احتساب الأصوات بها بنظام الصوت الفردى غير المتحول أى سيتم أخذ أصحاب المراكز الأول والثاني بغض النظر عن تمكن أيا منهما من نسبة الـ٥٠٪+١ المشترطة فى مركز ناصر لأنه لا معنى للدخول فى جولة ثانية فى هذه الحالة! وإذا ما قارنا شكل المنافسة واحتساب الأصوات المختلف فى دائرتى ببا وناصر بدائرة ثالثة ولتكن على سبيل المثال دائرة «سمالوط» التابعة لمحافظة المنيا المجاورة والمخصص لها ثلاثة مقاعد فإن أصحاب المراكز الثلاثة الأولى (لاحظ أن صاحب المركز الثالث قد يحصد مثلا ٢٥٪ فقط من الأصوات) سيحصدوا مقاعد الدائرة، ومن هنا نكون أمام نظام مشوه يشترط على عضو فى دائرة حصد ما لايقل عن ٥٠٪+١ من إجمالى الأصوات بينما يسمح لآخر بالحصول على المقعد بـ٤٠٪ فقط مثل فى دائرة ثانية، وثالث بـ٢٥٪ وربما أقل وهكذا.
هذا نظام مشوه وغير معمول به في أي دولة في العالم بلا مبالغة، يضرب الأحزاب، ويهدر الأصوات، ويؤسس لا مساواة عجيبة فى طريقة ونسبة الأصوات اللازمة للحصول على المقعد حتى في الدوائر الفردية فضلا عن دوائر القائمة، وهو نظام بلا شك تشوبه عدم الدستورية. كفى تشويها وتلاعبا بحياتنا النيابية والسياسية، أم أننا نبحث عن مزيد من الإثارة والاستقطاب على حساب الوطن؟