العجاتي في الدستور المصري .. "المواطنة والحراك العربي، بين الدساتير والواقع"

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
العجاتي في الدستور المصري .. "المواطنة والحراك العربي، بين الدساتير والواقع"
Credit: Spencer Platt/Getty Images

هذا المقال بقلم محمد العجاتي، باحث ومدير منتدى البدائل العربي للدراسات، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

في عام 2008 عقد الحزب الوطني مؤتمره السنوي تحت شعار المواطنة، ومنذ ذلك العام وفي كل مؤتمر سنوي يضع الحزب المواطنة كمحور من المحاور الأساسية لمؤتمراته، ولكن بالرجوع لوثائق هذه المؤتمرات نجد أن الحزب الحاكم في مصر أنذاك تناول مفهوم المواطنة بشكل قاصر وبه قدر من التبسيط الذي يصل لحد الخلل، فالمواطنة كمفهوم لا يمكن اختزاله في بعد واحد، فبجانب البعد السياسي المرتبط بالحق في الانتخاب والانضمام للأحزاب والمشاركة بصفة عامة في إدارة شؤون البلاد، هناك البعد الاقتصادي الذي ينطلق من المساواة في الفرص وعدم تهميش الفئات الاجتماعية الضعيفة، أيضا هناك البعد الثقافي المتعلق بالهويات الفرعية داخل ذات الدولة والمرتبط بحق أصحاب هذه الهويات من الحفاظ عليها وإظهارها في المجال العام مثلما في حالة الدين وحرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر. وفي نفس السياق مفهوم المواطنة ليس مفهوما قانونيا يعني المساواة في القانون وفي تطبيقه على الجميع، وإنما له شق حركي مرتبط بنضال الفرد في المجتمع من أجل تكريس حقوقه عبر مشاركته في الحياة العامة.

قبل الثورات العربية كانت الحكومات العربية وليس فقط الحزب الوطني في مصر، تستخدم التنوع العرقي والديني والثقافي في السيطرة على المجال العام فتلعب على أوتار الطائفية والعرقية لاستكمال شرعية منقوصة أو اختراع شرعية زائفة، واندلعت الثورات العربية بآمال الشعوب في إقامة الدولة القومية التي تحقق مبدأ المواطنة والعدل الاجتماعي، وكانت المظاهرات خير دليل على ذلك حيث مثلت التنوع العرقي والنوعي والتنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي داخل المجتمع، وفتحت الثورة أبوابها أمام الحركات الشبابية والأحزاب للعب دور في صناعة المستقبل والشعور بالانتماء والمساواة والعدالة. وهو ما حفز المطالبة بتغيير أو تعديل العديد من الدساتير العربية لإقرار حقوق المواطنة بشكل كامل سواء على مستوى مقومات الدولة أو الحقوق والحريات أو في طبيعة النظام السياسي.

رغم أن هذه المطالبات سابقة للثورات العربية إلا أنها لم تتم بشكل جدي إلا مع الحراك الشعبي الواسع فيما أطلق عليه "الربيع العربي"، بل أن دولا كانت تعتبر الحديث عن الدستور من التابوهات مثل الأردن قد أقدمت على تعديل دستورها. وكان من الواضح أن حجم التعديلات الذي أَجرى على الدساتير ارتبط بشكل واضح بحجم الحراك الداخلي فمصر وتونس شهدتا دستوريين جديدين، بحجم تغيرات أكثر مما شهدته الحالة المغربية والأردنية. وإن كان هذا من حيث الكم فمن حيث الكيف الوضع لم يكن مرتبطا بالضرورة بالحراك، إنما بالوضع السياسي والمواءمات وقوة أجهزة ومؤسسات الدولة في هذه العملية التفاوضية. كما أن هذه التعديلات لم ترتبط بالحراك الداخلي وفقط فالحالة الأردنية جاءت على خلفية تطورات إقليمية، والحالة المغربية تأثرت ليس في القرار إنما في كيفية التعديل بالوضع الإقليمي حيث أن مع نجاح الثورات العربية كان العمل على التعديلات أكثر جدية منه بعد تعثرها بل في رأي البعض توقفها وإقرار ما تم إنجازه. وكذلك ارتبطت تراجعات حركة النهضة في تونس في النسخة الأخيرة من الدستور بما حدث في مصر من عزل جماعة الأخوان المسلمين، وبالتالي الأثر الإقليمي كان حاضرا بوضوح في هذه العملية.

تظهر العلاقة بين التعديلات الدستورية ومفهوم المواطنة من خلال مدى إتاحة هذه التعديلات لحقوق المواطنة على مستوى الممارسة، فكلما كانت حقوق التنظيم أعمق وكلما كانت وسائل المشاركة ملزمة للسلطة وفعالة ومتطورة في هذه الدساتير كلما استوعبت الحراك السياسي المرتبط بالمواطنة، وكلما كانت هذه الآليات أقل انفتاحا وتطورا في الدستور فالحراك سيكون بالضرورة على شكل ثوري أكثر منه سياسي واحتجاجي أكثر منه مطلبي. إلا أنه رغم التطور الواضح في الدساتير العربية مازلنا نرى انتهاك لحقوق المواطنة في العديد من المجالات في الدول العربية، وذلك لأن مشاكل المواطنة غير مرتبطة فقط من خلال بالدساتير والتشريعات، إنما ترجع جذورها إلى بنية الدولة العربية الحديثة. فمسار نشأة الدولة القومية في السياق الأوروبي الغربي، شهد حالة من التطورات الاجتماعية والاقتصادية، كانت تدفع باستمرار في اتجاه تطوير العلاقة مع السلطة السياسية والتفاوض معها من جانب الأفراد والجماعات، وهذه العملية ترتب عليها مجموعة من التطورات في الأوضاع القانونية للمواطنين أدت إلى حصولهم على الحقوق المدنية ومن ثم السياسية في هذه المجتمعات، وهي تطورات أفرزت في النهاية كيان جديد يضم هؤلاء الأفراد/ المواطنين عُرف باسم الدولة القومية/ الوطنية. أي أن المواطنة كانت طريق الفرد للمشاركة لبناء الدولة الحديثة في أوروبا. أما في منطقتنا العربية فكانت نشأة الدولة الحديثة عبر هندسة إما من حاكم أراد محاكاة التجربة الأوروبية مثل محمد على في مصر، أو عبر القوة الاستعمارية مثل حالة بلاد الشام، وكانت المواطنة آلية لإدماج الفرد في هذه الدولة، أي من أعلى لأسفل بدلا من أسفل لأعلى كما في الحالة الأوروبية.

وهنا يكمن الخيط الرفيع بين الإصلاح الشكلي والتغيير فما بين الإثنين يقع "الإصلاح الجذري" القائم على دور المواطنين في تغيير من داخل مؤسسات الدولة القائمة لكن بشكل عميق لتطوير مفهوم المواطنة ليكون المواطن هو الذي يصيغ شكل الدولة الجديدة، لتعبر المواطنة في هذه الحالة كما يعرفها د. سمير مرقص عن حركة الإنسان اليومية، مشاركاً ومناضلاً من أجل حقوقه بأبعادها الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والمدنية والثقافية، على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز، بغض النظر عن: المكانة، والثروة، والجنس، والعرق، واللون، والجهة، والدين، والمذهب والمعتقد، والجيل،...الخ). واندماج هذا المواطن في الوطن الذي يعيش فيه، من خلال عملية انتاجية، بما يتيح له اقتسام الموارد والثروة الوطنية مع الآخرين. أي تعديل المعادلة القائم عليها الدولة العربية لتصبح من المجتمع للدولة بدلا مما هي عليه من أعلى إلى أسفل، وإلا سنظل أسرى الدولة القمعية التي لا تعترف بحقوق المواطن، أو سيكون حكم التاريخ القاسي على دولنا العربية وسنظل نبكي المؤامرات التي تحاك ضد دولنا لهدمها وتقسيمها والعيب في واقع الأمر في دولنا.