هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
كان مظهرا مؤلما أن ترى ضابط الشرطة الرائد الشهيد ضياء فتحي الضابط بإدارة المفرقعات بالجيزة وهو يلقى أنفاسه الأخيرة فور انفجار قنبلة حاول تفكيكها مرتديا بذلته الخاصة بهذا العمل الخطر في منطقة الطالبية، وكان المشهد الأكثر ألما هو مشهد جنازة الشهيد وقد جاء أقاربه بابنته الرضيعة فوق نعشه لتودع أباها في مشهد لن يمحى من ذاكرتها أبدا حينما تكبر وتدرك حقيقة فقدان الأب في هذه السن المبكرة.
لم يكن هذا المشهد هو الأول ولكننا نتمناه، رغم إدراكنا لصعوبة ذلك، أن يكون الأخير. فقبله كانت هناك عشرات المشاهد المصورة والمتلفزة لعشرات بل ومئات من جنود الجيش والشرطة وهم يلقون الشهادة وتزهق أرواحهم البريئة أمام حوادث إرهابية مجرمة في عصر التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت تسجل الأحداث فور بل وأثناء وقوعها لتصبح مهمة نسيان الأحداث المؤلمة من الذاكرة الوطنية من الصعوبة بما كان.
أمام هذه الحوادث المفجعة لجنودنا وفى عصر العنف السياسي والاستقطاب المجتمعي تختلط الأوراق ويفقد الكثير منا الرؤية الصحيحة لتقييم الأحداث والحكم عليها. ومن هنا ومع بداية عام جديد نتمنى فيه لوطننا السلامة والوحدة والتقدم والرخاء نضع خمس ملاحظات تأسيسية لما يجب أن تكون عليه علاقة الشعب مع مؤسساته الأمنية وتحديدا مؤسستي الجيش والشرطة بعيدا عن تعقيدات المشهد واختلاط أوراقه:
أولا: فى كل دول العالم المتقدم منها والمتخلف، الديموقراطي منها والشمولي، لابد أن تضطلع مؤسسات محددة بمهمة الأمن والدفاع داخليا وخارجيا، لابد أن تتمتع هذه المؤسسات بالموارد التي تمكنها من القيام بعملها على أكمل وجه، ولابد أن يحصل الأفراد العاملين في هذه المؤسسات على الدعم المادي والمعنوي، السلطوي والمجتمعي اللازم للقيام بهذا العمل الخاص والخطر باحترافية ومن هنا فمن الطبيعي أن توجد في مصر مؤسسات شرطية وعسكرية وأجهزة أمنية واستخباراتية أخرى تقوم بالمهام المطلوبة منها للدفاع والزود عن الوطن.
ثانيا: في أوقات التحولات السياسية، تتعرض هذه المؤسسات لتحديات كبرى، وأهمها كيف يمكنها أن تنأى بنفسها عن أجندة النظام ومؤسساته ورجاله لتبقى ملك الشعب تدافع عنه وعن إرادته باستقلالية وحيادية واحترافية في نفس الوقت. ولأنها معضلة تتجاوز قدرة أي منظر على أن يحصرها في سطور، تأتي دوما الأطر الدستورية والقانونية لتنظم عمل هذه المؤسسات وتوازن بين ميزاتها المادية والمعنوية والمؤسسية التي تكفل لها التمكين والاحترافية اللازمة للعمل، وبين الحدود التي لا ينبغي لها أن تتجاوزها لتبقى على هذا الحياد والاحترافية دون أن يتم تسيسها أو توريطها في معادلات صراعية تؤثر على وحدتها واستقلالها ومن هنا يتعرض الوطن للخطر الحقيقي لو لم يتم الالتزام بهذه المعايير الدستورية والقانونية.
ثالثا: بناء على النقطة سالفة الذكر، فلابد أن ندعم جميعا مؤسسات الشرطة والجيش بلا مزايدات أو خلط للأوراق، وهذا الدعم ليس منّة من الشعب عليها ولكنه دعم مضمون ومحفوظ في الترتيبات الدستورية والقانونية التي تسعى للحفاظ على وحدة هذا البلد وسلامة أراضيه على النحو المبين في الدستور، ومن هنا فأي تصورات تهدف لهدم أجهزة الشرطة أو الجيش كمؤسسات نظامية محترفة واستبدالها بأي صيغ شعبوية تأثرا ببعض بلاد الجوار أو تبنيا لبعض الهلوسات التنظيرية هو تصور مرفوض وغير مسؤول ومن شأنه إدخال البلاد في حالة فوضوية لا يجب أن نذهب إليها أو نقبل بمزايدات ومساومات وأحلام الواهمين بالنماذج غير القومية لبناء أطر عشوائية ترفض المواطنة كأساس وحيد لقيام الدول.
رابعا: وبناء على النقطتين أعلاه، فإن الضمير الوطني يجب أن يقر في يقينه وذاكرته أن رجال الشرطة والجيش هم رجال وطنيون ينتمون لمؤسسات وطنية تعمل على الدفاع عن وحدة البلاد وسلامة أراضيها وهم في ذلك متمتعون بكل المزايا المادية والمعنوية والمجتمعية اللازمة للقيام بهذه المهام بشرط وحيد وغير قابل للمساومات والتفاوض وهو أن تلتزم هذه المؤسسات بالمعايير الدستورية والقانونية التي مكنتها من هذه المميزات وذلك لضمان ألا تتورط في انتهاك حقوق المواطنين أو الوطن تحت أي دعاوى مبتذلة عن حماية البلاد، فهذا الالتزام هو في صالح الوطن أولا والمواطن ثانيا وهذه المؤسسات ثالثا وهذا هو الحال في أي دولة تحترم مواطنيها ومؤسساتها ودستورها سعيا نحو وحدتها.
خامسا: بناء على كل ما سبق، فإنه لا تعارض إطلاقا بين دعم مؤسسات الجيش والداخلية وغيرها من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للقيام بواجباتها ومكافحة الجريمة والإرهاب والشعور بالحزن والتضامن مع رجالها ممن يستشهدون أو يعرضون حياتهم للخطر في مواجهة العمليات الإرهابية ودعم أسرهم بكل قوة وبين المطالبة بابتعاد هذه الأجهزة عن السياسة حفاظا على وحدتها واخضاعها لرقابة وطنية مسؤولة تتخذ الترتيبات الدستورية والقانونية المستفتي عليها شعبيا لضمان التزام هذه المؤسسات بالقيود اللازمة لدعمها وتمكينها ورفع كفاءتها أولا، وابتعادها عن الشأن السياسي بكل ترهاته ودهاليزه وألعابه ثانيا، والالتزام بحقوق المواطنين بما فيها حقوق المتهمين حتى تتم إدانتهم أمام سلطات قضائية عادلة ومستقلة ومحترفة ثالثا.
وبناء عليه وحتى نتجه نحو تأسيس جديد للعلاقة بين المدنيين والسياسيين من ناحية وبين المؤسسات الأمنية بأضلاعها الثلاث (الجيش والشرطة وغيرها من الأجهزة الاستخباراتية) من ناحية ثانية فلابد من العمل على:
1-التمييز بين المدنيين والأمنيين لا بهدف الفصل التام بينهم، ولكن سعيا إلى وضع فصل وظيفي ومؤسسي نظرا لطبيعة التنشئة والوظائف المختلفة لكلا منهما، وهو تميز دستوري بالأساس يهدف إلى تحقيق توازن في العلاقة بين هذه الأطراف جميعا وبين غيرهم من المؤسسات السياسية والبيروقراطية الأخرى في المجتمع.
2-لابد من البحث عن نموذج حواري تفاوضي وليس صراعي بين المدنيين والأمنيين، يهدف إلى تحقيق السيطرة المدنية بمعادلاتنا السياسية التي تراعي الأبعاد الأمنية والسياسية والثقافية الداخلية في ظل الاستفادة من الخبرات الدولية في هذا الإطار.
3-هذه السيطرة المدنية تعنى البحث عن أساليب تفاوضية نحو تأسيس (أو تعديل) دستوري جديد يعمل على تمكين الفاعلين السياسيين المنتخبين شعبيا من عملية صنع القرار السياسي واختيار أفراد النخب السياسية والاقتصادية الضالعين في عمليات صنع القرار على مستويات قومية ومحلية، ويوفر صيغة وإطار تنفيذي للموازنة بين الرؤى الأمنية (شرطية وعسكرية) وبين الرؤى المدنية السياسية في توفير وحفظ الأمن الداخلي والخارجي، ويعمل على توفير استقلالية مؤسسية واقتصادية واجتماعية للمؤسسة العسكرية في ظل الالتزام بحد أدنى من الرقابة البرلمانية، مع البحث عن صيغ أكثر مرونة وواقعية لإنشاء دوائر قضائية مختلطة بين القضاء المدني والعسكري لمحاكمة المدنيين المتورطين في قضايا ذات طبيعة عسكرية أو أمنية في إطار الالتزام بقواعد العدالة وإنفاذ القانون.
4-لابد بمساعدة البرلمان ومنظمات المجتمع المدني وبإعلام محترف غير محرض ولا متورط فى الدعاوى الفاشية المحرضة على ممارسات "تصفية" المشتبه بهم دون سند من القانون ودون توفير حد أدنى من قواعد العدالة الجنائية، الضغط على السلطات التنفيذية والأمنية لاتخاذ إجراءات فورية لإصلاح مؤسسة الداخلية ومسائلة قادتها دون الإخلال بوحدتها أو بقدرتها على تنفيذ السياسات الأمنية المنوطة بها، وتوفير العدالة للمشتبه بهم فضلا عن السجناء مع تحسين الخدمات اليومية للتعاطي مع المواطنين (الكمائن، المحاضر الشرطية، بلاغات الاستعانة بالنجدة، شرطة تنفيذ الأحكام، المباحث..الخ) وذلك بهدف تحقيق قواعد العدالة الجنائية كإجراء أولي وتدريجي نحو إرساء قواعد العدالة الانتقالية المبتغاة لرفعة هذا الوطن.
نحن في مصر في حاجة ماسّة إلى تأسيس جديد للعلاقات الأمنية-المدنية وهو تأسيس يتطلب خطوات دستورية وتشريعية ورقابية وشعبية نحو إنهاء مأسي هذا الوطن المتكررة. كنا وسنظل داعمين لجيش وطني مستقل وجهاز شرطة محترف قادر على ضبط الأمن، ورجال قادرين على القيام بمهامهم الوطنية في تحقيق الأمن القومي، نتألم على فقدانهم جراء أي عملية إجرامية هنا أو هناك، ولكننا في نفس الوقت لانقبل أي تجاوزات دستورية في حقوق المواطنين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية، لا تعارض بين هذا وذاك، فهناك فرق بين من يطالب بهدم أو استبدال هذه المؤسسات وهو موقف غير مسؤول نرفضه، وبين من يورط هذه المؤسسات في الشأن السياسي وفي انتهاك حقوق المواطنين بدعوى الأمن القومي والحرب على الإرهاب وهو موقف انتهازي ننأى بأنفسنا عنه، وبين المطالبة بالدستور والقانون حكما بين الجميع سعيا للقضاء على أسباب العنف والإرهاب وهذا موقف نظنه لصالح مصرنا الحبيبة، فهل من تأسيس جديد؟