هذا المقال بقلم زياد بهاء الدين، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
شاءت الظروف أن أكون حاضرا لقداس عيد الميلاد مساء الثلاثاء الماضي في كاتدرائية العباسية وأن أكون شاهدا على الزيارة المفاجئة لرئيس جمهورية مصر والتي يصح اعتبارها تاريخية، ليس فقط لأنها الأولى من نوعها، وإنما لأنها سوف تكون لسنوات طويلة حدثا يذكره الناس ويتذكرون دلالته.
بالطبع لم أستغرب الترحيب الهائل الذي استقبل به المصلون وضيوفهم السيد الرئيس، بل همست لصديق جالس بجواري أن كل مسيحي في مصر، من أوسعهم ثراء حتى أكثرهم تواضعا، سوف يشعر اليوم بفخر واعتزاز كما لو كان الرئيس قد زاره شخصيا في منزله. والسبب أن الزيارة قد حملت معانٍ رمزية كثيرة: فقد جاءت لتعبر عن عزم رئيس الجمهورية على أن يكون رئيساً لكل المصريين، وعن تقديره للمساندة التي قدمتها الكنيسة له وللدولة الجديدة وقدمها الأنبا تواضروس برغم نصيحة الكثيرين له بالتروي وعدم إلقاء ثقله بالكامل في الساحة السياسية، كما أن كلمة الرئيس قد أكدت بوضوح على الوحدة الوطنية ورفض التفرقة بين المسلمين والمسيحيين. ولم يفت الحاضرون والمتابعون على شاشة التلفزيون مقارنة ذلك بسلوك الرئيس السابق الذي لم ينجح في بناء جسور الثقة والتعاون مع المجتمع المسيحي الذي اعتبره رئيساً لأهله وعشيرته فقط دون باقي المصريين.
لا عجب إذن أن يكون للزيارة هذا الوقع الإيجابي، وأن يعتبرها الكثيرون بداية مرحلة جديدة من التقارب والوئام. ولكن مع تقديري لقيمة هذه اللفتة وأهميتها في ظل الظروف الحالية وإدراكي لما تمثله من قيمة رمزية كبيرة، ألا أن الواقع يظل محملا بقضايا شديدة الأهمية والإلحاح مما ينبغي التصدي له إذا كنا نرغب في تجاوز العمل الرمزي إلى تحقيق نتائج ملموسة.
ونقطة البداية في تقديري هي العمل على طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة من الوحدة والترابط بين المصريين وتضميد جراح لا تزال مفتوحة، الأمر الذي لن يتحقق دون أن تعلن الدولة عن نتائج التحقيقات في الأحداث الطائفية الكبرى التي شهدتها البلاد خلال السنوات القليلة الماضية وتحدد المسؤولين عنها وتتخذ الإجراءات القانونية المناسبة حيالهم وتفي بوعدها في إصلاح الخسائر التي ترتبت عليها.
هذا عن الماضي. أما عن المستقبل فإن المشاعر النبيلة التي عبر السيد الرئيس عنها خلال زيارته القصيرة لابد وأن تترجم إلى أفعال تحقق المساواة بين المصريين. ويأتي على رأس ذلك إعداد قانون شامل لمنع التمييز في كل مناحي الحياة بما فيها تقلد الوظائف العامة والمناصب الرسمية، وفرض المساواة في ظروف وشروط العمل العام والخاص، وكفالة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإصدار قانون ينظم بناء وتجديد دور العبادة، ومنع كل أشكال التهجير القسري والصلح العرفي حينما يستهدف الطمس على جرائم طائفية، وتطبيق القانون على الجميع دون تفرقة، وإعادة الحياة للمجلس القومي للعدالة والمساواة الذي يرصد حالات التمييز وينبه للتوتر الطائفي قبل وقوعه ويفعل الآليات المدنية لتحقيق التقارب والمودة بين المسلمين والمسيحيين.
كذلك فإن زيارة الرئيس، بكل ما حملته من معانٍ إيجابية بشأن تحقيق المواطنة، إلا أنها لو لم ترتبط بتحقيق إنفراجة في المناخ السياسي والأهلي فإنها سوف تعني العودة للأسلوب التقليدي الذي عرفته مصر لسنوات طويلة في إدارة الملف الطائفي، حيث تلتزم الدولة بحماية المسيحيين وحماية كنائسهم وإعطائهم قدرا من التمثيل السياسي والبرلماني مقابل ولائهم للنظام وانسحابهم من العمل السياسي واعتبار الكنيسة ممثلا دينيا وسياسيا لهم وقبول التنسيق بينها وبين أجهزة الأمن في كل ما يخص شؤون الطائفة. هذا المنطق لم يعد صالحا اليوم بعد أن خرجت الجماهير - مسلمين ومسيحيين - إلى الشوارع والميادين وقامت بثورتين وصار من حقها التمتع بالمواطنة الكاملة التي تتجاوز مفهوم الحماية الطائفية إلى التمتع بكافة الحقوق السياسية والشخصية دون تمييز او تقييد.
وأخيرا، فإن اهتمام السيد الرئيس بتحقيق الوئام والتوافق بين طوائف الشعب المصري بادرة طيبة، ولكن أتمنى ألا تتوقف عند ما يخص المسلمين والمسيحيين فقط، بل تتجاوزها للسعي وراء ذات الوئام والتوافق في صفوف الشعب المنقسم انقساما عميقا بين فلول وثورة، وشباب وشيوخ، وأغنياء ومهمشين، ونساء ورجال، ومدنيين وإسلاميين. مصر ليست بحاجة لكلمات رقيقة حول المحبة والصداقة بين المسلمين والمسيحيين فقط، بل إلى مصالحة وطنية شاملة تزيل من على كاهلها كابوس الانقسام والاقتتال الذي صار قوة هادمة لكل جهود التقدم والتنمية والوفاق.
تحية لقرار الرئيس بزيارة الكنيسة ليلة العيد، ولكن الأمل ألا تكون نهاية المطاف بل بداية تغيير أكبر.