رأي.. المؤتمر القومي الأول للسياسة الخارجية المصرية: الشكل والمضمون

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
تقرير جميل مطر
رأي.. المؤتمر القومي الأول للسياسة الخارجية المصرية: الشكل والمضمون
صبي مصري يرسم علم بلاده على وجهه أثناء مشاركته في احتفالات أمام القصر الرئاسي في القاهرةCredit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

أنا سعيد بالاستقبال الطيب الذي حظي به اقتراح الاستعداد لعقد مؤتمر، سيكون الأول من نوعه في مصر، للسياسة الخارجية المصرية. أثيرت أسئلة كثيرة وتعددت الاجتهادات أكثرها لا يتعلق بجدوى المؤتمر وأهميته بقدر ما تعلق بشكله وتنظيمه وخطوات الاستعداد له ونوعية المشاركة فيه.

***

أعود فأوجز دوافع ومبررات الدعوة لعقد مؤتمر قومي للسياسة الخارجية المصرية. هناك اتفاق عام، داخل مصر وخارجها، على أن السياق الدولي الذي تمارس فيه سياساتنا وعلاقاتنا الدولية قد تغير وفي طريقه إلى تحولات جوهرية أشد عمقا وشمولا. هناك أيضا اتفاق عام بين المتخصصين في الشئون الإقليمية بأن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات أساسية في السياق الإقليمي، بينما لم تشهد سياستنا الخارجية التغيرات التي تتناسب وهذا التغيير في الإقليم.

كذلك صار واضحا أن دولا عظمى ومتوسطة عديدة أقدمت خلال السنوات الأخيرة على تغيير "أنماط "سياساتها الخارجية . جرى بعض التغيير في هذه السياسات بعد التوصل إلى "قناعات قومية "في تلك الدول بضرورة إعادة النظر في المسلمات والثوابت التي قامت عليها سياساتها الخارجية لعقود عديدة، حدث هذا في أمريكا وحدث في الصين ويحدث في روسيا والهند والبرازيل وكوبا وتركيا وأوكرانيا . أؤكد هنا أن في معظم هذه النماذج امتدت يد  التغيير إلى بعض الثوابت القومية.

أذكّر كذلك بثورة نشبت في مصر ودول عربية أخرى . أخطأ حكام عرب حين تعاملوا مع هذه الثورة على أنها محصلة مؤامرات خارجية أو نتيجة  تقصير إداري وأمني أو ثمرة مجموعة مصادفات عابرة. اخطأوا حين تصرفوا، وبعضهم مايزال يتصرف، بنية العودة إلى ما كانت عليه الأحوال قبل نشوب هذه الثورات ونية التأكد من تفادي أوجه القصور والفلتان. اخطأوا ويخطئ من استمر يعمل في ظل هذا الاقتناع.

هناك ثورة غيرت ومازالت تغير. ودليلي القاطع هو هذه التجاذبات والتغيرات في بعض تفاصيل السياسة الخارجية في جميع الدول العربية بدون استثناء، تلك التي قامت فيها ثورة، وتلك التي تحاول تأجيلها. يكفي نموذجا على هذه الحالة المتقلبة في السياسات الخارجية الإقليمية الوضع في مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات الأربع الأخيرة، وبشكل خاص الجهود المكثفة، المتضاربة أحيانا، لإصلاح أعطاب شديدة أصابت الصورة الإقليمية والدولية لهذه المجموعة العربية، وانعكاسات هذه الصورة على صورة النظام الإقليمي وجامعة الدول العربية. وفيما يخصنا فنحن نعرف جيدا في القاهرة عمق التأثير الذي حدث في مصر ويحدث في سياستها الخارجية كنتيجة مباشرة لتطورات الوضع في مجلس التعاون.

***

     إن استمرار الثورة، أو على الأقل استمرار أجواء التغيير السياسي الإقليمي عامة والداخلي في مصر خاصة، يتيح فرصة للتفكير المرتب، ولكن العميق، حول ضرورة العودة لاكتشاف قواعد ومبادئ جديدة لسياسة خارجية مصرية تتناسب، وقياس حجم التحولات الواقعة فعلا في العالم والمنطقة وفي مصر. مهم جدا أن نستعد بالخيال ولكن أيضا بواقعية متزنة  لتحولات أشمل وأعمق في كل نواحي حياتنا. لدينا فرصة لا تعوض، فالإنسان المصري جاهز لتحمل تكلفة التغيير ومتحمس له ومستعد لدعمه، وبخاصة إذا اقتنع بجدية النوايا وتوفر الإرادة. مرة أخرى أعود لأؤكد أن الفرصة تبدو سانحة لأن أغلب الظروف تضغط وبشدة من أجل التغيير، ولأن لا أحد ينتظر أن يتحقق إصلاح باستخدام أساليب مبارك وفلسفته عن الاستقرار السياسي.

***

المثال البارز على ضرورات التغيير هو الحديث المتكرر، نظاما بعد نظام وقيادة بعد قيادة، عن دور مصر. صار دور مصر يتخذ طابعا فولكلوريا من فرط استسهال تناوله والتشدق به عن فهم حينا وعن جهل في معظم الأحيان ومن فرط التعامل به ومعه إعلاميا وسياسيا  بطريقة هزلية وديماجوجية -- جميل مطر.

كنا نعرف في أعماقنا وفي خطاباتنا وسلوكياتنا أن هناك انحدارا في مكانتنا الإقليمية والدولية وانحسارا في مواقعنا الخارجية -- جميل مطر. بعضنا كان يسأل نفسه، ومن حوله، عن طبيعة ونوع هذا الانحدار. كان الانحدار حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، ولا يجب إنكارها الآن إن شئنا التغيير نحو الأحسن. يجب علينا أن نميز بين انحدار دولة وانحدار نفوذ هذه الدولة. كنت دائما، ومازلت، اعتبر أن النفوذ المصري انحدر قبل أن تنحدر الدولة المصرية -- جميل مطر.  انحدرت الممارسات والأخلاقيات والوعي بأهمية دور مصر قبل أن تنحدر امكانات الدولة وقدراتها الملموسة وأرصدة سياستها الخارجية.

***

تعلمت على مر العقود، أكاديميا ودبلوماسيا، أن لا نفوذ خارجي قوي ومؤثر لدولة لا تحمل سياستها الخارجية رسالة إلى العالم، أو على الأقل للإقليم الذي تنتمي إليه. كوبا حافظت لعقود عديدة على جودة وأناقة رسالتها إلى شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وها هي تجني ثمارها. إيران منذ أزمنة صاغت رسائل إقليمية عديدة، وها هي تسعى لتطوير رسالة توجهها للعالم، قد لا تحظى برضاء من دول في الإقليم وخارجه ولكنها تبقى مؤثرة وفاعلة. تركيا، حاولت، منذ أوائل القرن الحالي صياغة رسالة إلى شعوب وحكومات الشرق الأوسط، ولكنها لم تحسن صياغتها أو لعلها أخطأت في العنوان وفي التوقيت فتعطلت أو على الأقل تأجلت. ولأمريكا رسالة نعرفها ولروسيا رسالة  يعاد بعثها. ها هي الهند تنشغل بصياغة رسالة تليق بحضارتها وتراثها ونهضتها الحديثة. أتصور وبأمل متقد أن المؤتمر الذي نقترح عقده سيكون مكلفا بصقل رسالة مصرية كنا نتباهى بها أمام أمم كثيرة، ويحق لنا بعد صقلها تطويرها وبثها في نفوس المصريين وعقولهم ثم في الإقليم، ومن الإقليم إلى العالم الخارجي -- جميل مطر.

***

أفكار على هذه الدرجة من الطموح والتطلعات المستقبلية، وقائمة على تصورات وسيناريوهات أكاديمية وتجارب فعلية في دول تزداد عددا، هي أفكار تحتاج إلى مؤتمر بتركيبة خاصة وأهداف مختلفة عن أهداف المؤتمرات التليفزيونية الشائعة. أنا، وكثيرون أيدوني، أطمع في مؤتمر يشارك فيه مئات، لا أمانع في أن يكونوا ألفا أو ألفين، ولكني أرفض  بالتأكيد أن يكون على شاكلة مؤتمرات العشرة أشخاص أو العشرين أو حتى الخمسين.هؤلاء العشرة أو الخمسين لن يمثلوا تمثيلا صادقا وحقيقيا مصالح مصر القومية التي يسعى المؤتمر، لأول مرة في تاريخ مصر، إلى وضع تعريف واضح وواقعي لها. لن يمثلوا المصالح الزراعية والتجارية وقطاع الأعمال والنقابات العمالية والمهنية. لن يمثلوا الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني وبخاصة المجموعات الحقوقية والمدافعة عن الحريات والعدالة.

أتصور في المؤتمر لجانا بالعشرات متخصصة في تخصصات دقيقة ولكن لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسياسة الخارجية. أتصور مشاركة من كافة الأعمار والهويات، ومشاركة من المهاجرين المصريين ومن علمائنا وباحثينا ودارسينا في الخارج. أتصور لجانا تجمع العقول المصرية الرائعة التي تعمل في المؤسسات الدولية والشركات عابرة الجنسية. أتصور لجانا تمثل مؤسسات مصر المحلية ومحافظاتها الإقليمية. أنتظر بشكل خاص لأرى، مشاركة فعالة من مواقع سلك القضاء ومن المراكز الأكاديمية والمتخصصة في القوات المسلحة المصرية، ومن مبعوثيها في الخارج، ومن قطاعات التحليل الاستخباراتي. أتوقع بالتأكيد بل وأتطلع إلى مشاركة قوية من ممثلي أجهزة الأمن الداخلي.

***

لن يكون من مهام هذا المؤتمر اقتراح سياسات معينة أو تقييم سياسات قائمة أو ماضية. لن نريد بحثا في علاقتنا بإيران أو بالسعودية أو بأمريكا، فلدينا من هذه البحوث العشرات. لن تكون السياسات من اختصاص مؤتمر مهمته الأساسية إعادة النظر في "الثوابت والمسلمات والمبادئ والقواعد" .لا نريد  أن نناقش في أمر الماضي ونحكم عليه. لكننا نريد وبالتأكيد مناقشة أمر المستقبل عندنا وعند غيرنا. وفى الوقت نفسه نناقش ونقرر في أمر أحوال مصر وحقيقة امكاناتها وقواها الصلبة والناعمة على حد سواء. فليحاول المؤتمر حصر وتقييم  القوى الناعمة المصرية التي يمكن الاعتماد عليها لسنوات قادمة، وليحاول في الوقت نفسه تطوير قوى ناعمة جديدة -- جميل مطر.

***

نسعى لعقد مؤتمر يناقش بكل صراحة وشجاعة مسألة "الدور". فلنسأل أنفسنا إن كان الإقليم العربي، أو الشرق أوسطي، في حاجة إلى مصر بعد عشرين أو ثلاثين عاما؟ وكيف نجعله في حاجة إلى مصر إن بدا لنا أنه لن يكون في حاجة إليها؟ وهل يمكن لمصر أن تعيش في سعادة وبحبوحة إذا لم يكن لها دور؟ هل حقيقة أن الدور الخارجي قدر محتوم؟ أم أنه دور يرسمه أصحابه والمستفيدون من وجوده ويتعهدون، إن أفلح، بتنميته وحمايته؟

***

سهل جدا أن أدعو إلى عقد مؤتمر يضم خيرة أعضاء نخبة السياسة الخارجية المصرية، عشرة أو عشرين من الأكاديميين والدبلوماسيين القدامى وخبراء الاستراتيجية العسكرية الاستخباراتية، ليضعوا ورقة أو أوراق في السياسة الخارجية، أؤكد وأعلم عن خبرة وثقة، أن كثيرا من هذه الأوراق ستكون ذات فائدة في تحليل وتطوير بعض السياسات الخارجية "القائمة" وبمعنى أدق الساكنة، مثل علاقتنا بإيران وأفريقيا والاتحاد الأوروبي والصين. ستكون قيمتها التحليلية، وفي الغالب الوصفية، كبيرة ولكن تبقى في حيز القائم . تبقى قاصرة عن إصدار الحكم الأشمل، في مدى ملاءمة "عمارة " السياسة الخارجية المصرية للبيئة العالمية والإقليمية بعد عشرة أو عشرين عاما، خاصة ونحن نعلم علم اليقين أن دولا عديدة تعيد الآن تقييم ثوابتها ومسلماتها بل وايديولوجياتها، وتعيد تعريف مصالحها القومية وأدوارها ومسئولياتها الخارجية، استعدادا لنظام دولي جديد  ومنظومة تفاعلات دولية مختلفة عن كل ما عرفناه وعهدناه.