مصطفى النجار يكتب عن ذكرى 25 يناير.. "المواجهة الكبرى والقدر المحتوم"

الشرق الأوسط
نشر
6 دقائق قراءة
مصطفى النجار يكتب عن ذكرى 25 يناير.. "المواجهة الكبرى والقدر المحتوم"
Credit: MOHAMED HOSSAM/AFP/GettyImages

هذا المقال بقلم مصطفى النجار، عضو مجلس الشعب السابق، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN 

 لم تكن ثورة يناير حادثا قدريا بل تراكما أنتجته عقود الاستبداد وتفاقم الفشل وتفشي المظالم وسقوط دولة القانون، جاءت لتنهي حقبة بدأت من منتصف الخمسينيات وامتدت حتى 2011. حقبة بائسة تبدلت فيها الوجوه ولكن بقيت السياسات والأطر المشوهة التي قادت مصر من فشل إلى فشل حتى بلغ الاختناق مداه ليحدث الانفجار الفجائي الذي لا يصدقونه حتى الآن، ويعتقدون أنهم استطاعوا استيعابه أو إجهاضه وهم واهمون.

 الهندسة الاجتماعية للشعوب تقول إن من المحال أن يظل جيل ما يتقدم ويقود دون تغيير وتجديد، لذلك كان ما حدث طبيعيا نتيجة التكلس النفسي وشيخوخة الأفكار التي حكمت مصر عقودا متوالية. شهدت مصر خلال السنوات الأربع الماضية المشهد الافتتاحي للثورة، وبقدر توالي الأحداث ودراميتها وبرغم التعثر والكبوات المتلاحقة إلا أن من ينظرون للمشهد من زاوية علم الاجتماع يدركون أن التدافع قد انطلقت دورته وتسارعت مسيرته وسينتج – شاء من شاء وأبى من أبى – تغيرات عميقة في بنية المجتمع المصري، قد يكون أبسطها وأسهلها هو إقامة نظام سياسي جديد قائم على الديموقراطية الحقيقية.

التغيرات الكبرى في الشعوب تستغرق سنوات وربما عقود لكنها في النهاية تصنع ميلادا جديدا لهذه الشعوب التي تبدأ رحلة تطورها ونضجها بدءا من حدث كبير يهز وجدان الملايين مثل ثورة يناير، وما أتبعها من محطات دامية وتعثرات قاسية أسقطت الأوهام الكبرى التي كبلت مسيرة الوطن وحصرته في اختيارات حدية أثبتت بؤسها وعدم صلاحيتها للزمان والإنسان.

صنعت الثورة استقطابا جيليا لا مناص من الاعتراف به بعد أن فشلت محاولات بناء شراكة جيلية، وأصر جيل ما على إقصاء الجيل الأصغر وإنهاكه واستنزافه ولم يتورع عن إعلان الحرب عليه، وبذل كل الجهد لكسر إرادته وتحطيم معنوياته، وزرع فيروس الانهزام وفلسفة المهزومية فيه ليقبل إعادة إنتاج الماضي وتشوهاته وليتحمل سخافات الاتهامات من نوعية (الثورة خربت البلد) و (سيبوا الكبار يتصرفوا) و (انتم مش فاهمين حاجة). وكان من المضحك أن من يقول ذلك هو كهنة الماضي وديناصورات الحاضر الذين قادوا المشهد على مدار عقود متوالية وأوصلوا الوطن لهذا الفشل والتردي والسقوط.

 صدق بعض الناس مرة أخرى أن الشباب لا بد أن يختفوا من المشهد ويتركوا الساحة لآلهة الحكمة، فلم يحصدوا غير خيبة الأمل وتهاوي الأحلام والانكسار النفسي مرة أخرى والعودة لدائرة اليأس والإحساس بالعجز، ومهما تكررت الحكاية وأخذ الصراع أشكالا متعددة فالحقيقة المؤكدة أن الماضي لن يستطيع أن يقود المستقبل.

 من العجيب أن آلهة الحكمة تطالب الشباب بالنقد الذاتي لتجربتهم خلال السنوات الأربع الماضية، ولا يفكرون في عمل نقد ذاتي لتجربتهم البائسة على مدى عقود طويلة قادوا فيها الوطن للمهالك وأخروه عن كل شعوب الأرض التي كانت مصر تسبقها قبل ذلك. هم يقزمون مصر ويصيبونها بالعقم والجمود ويعتقدون أن هذا قمة النجاح! بينما هذه الجموع الشابة ترى مصر دولة عظمى تقوم على العلم والمنهجية وحسن الإدارة والحكم الرشيد.

المواجهة الكبرى آتية لا محالة وهي انقلاب قيمي على المستوى الجمعي سيطيح بكل التقاليد المهترئة والقيم البالية وسيسقط كل الأفكار الشائخة وسيعزل التأثير السلبي لأصنام الماضي التي تصر على الثبات في مواقع ليست مواقعها وعلى قيادة زمن ليس زمنها.

 نحن لسنا بصدد مواجهة سياسية فقط كما يعتقد البعض بل لحظة ستتهاوى فيها الأصنام وتهتز الأفكار وتنكسر الاعتقادات المُعيقة التي كبلت السير نحو المستقبل. في اللحظة التي يكتمل فيها الوعي ستحدث الإزاحة ويتم الاستبدال تلقائيا حيث لن يجد الماضي مكانا ولا قبولا للتواجد على هذه الأرض.

أرادها الشباب معركة بناء وتنافس على الأفكار وإصلاحا لكوارث الماضي، وحولها خصومهم إلى معركة وجود لا يقبلون فيها غير وجودهم وتسلطهم، لذلك فهم من اختاروا مصيرهم الآتي وحددوا المآلات التي ستنتهي إليها المواجهة القادمة.

 لن ينتصر المستقبل بتوظيف الدين ولا استخدام القوة لقهر الناس وإخضاعهم بل سينتصر بهؤلاء الأطفال والفتية الذين يحملون في أيديهم هذا القرص اللوحي (التابلت) وينطلقون من خلاله للتواصل مع الحضارة الإنسانية ويتعلمون من تجارب الشعوب الأخرى ويلحقون بركب العلم الذي يرفع الأمم ويسعد البشر.

ستبقى المعركة في مصر معركة مستعرة بين العلم والجهل، القدرة والعجز، العدل والاستبداد، المنهجية والعشوائية، الخرافة والحقيقة، الجمال والقبح، العمل الجماعي والأنانية.

 ثورة يناير هي مفتاح المستقبل الذي يحاولون أن يوصدوا أبوابه لكن الطوفان قادم ليطيح بالجميع، كل ما جرى في السنوات الأربع الماضية هو جزء من بناء الوعي واستكمال التصورات واكتساب المناعة ضد تشوش الأفكار وفقدان الاتجاه. الفرز المستمر يسقط الورق اليابس وينضج الثمر الطيب.

 ربما تفصلنا سنوات أو عقود عن المواجهة الكبرى لكن اليقين أنها آتية لا ريب فيها لأن المستقبل سيهزم الماضي.