هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
يعلمنا التاريخ أن كل أيام الفرح أوالحزن لابد لها من نهاية، وأن يوما جديدا يولد حتما، صحيح للأيام التاريخية بأفراحها وأطراحها أثارا عميقة على أحداث الأيام التالية لها، لكن لايقف التاريخ كثيرا عند أي لحظة مهما بدت محورية أو غير مسبوقة. سواء كنت من هؤلاء الذين يحتفلون اليوم بعيد الشرطة نكاية في الثورة التي تعتبرها مؤامرة لإسقاط الوطن لحساب آخرين، أو كنت من هؤلاء الذين يحتفلون بذكرى الثورة الرابعة متذكرا شهداء ومصابين دفعوا حياتهم وأطرافهم وحواسهم ثمنا للحرية والديمقراطية والعيش والكرامة، أو حتى لو كنت من هؤلاء الذين ملّوا من السياسة ولا تريد لهذا اليوم سوى أن يمر بسلام بحثا عن الإستقرار ودفع العجلة التي لا يعرف أحد لماذا لا تدور منذ أربع سنوات رغم وقف كل أشكال الحراك؟ فإن معايير الرشادة والعقل والمنطق يجب أن تدفع الجميع للتفكير فيما بعد يناير.
***
السطور القادمة تطرح عشرة أسئلة أتصورها ضرورية للقوى المؤمنة بضرورة التغيير (ثورية أو إصلاحية) وتحتاج إلى إجابات محددة لتحسس ملامح مستقبلها.
السؤال الأول: هل سنظل أسرى ليناير؟ ليس المقصود هنا المزايدة على يناير، لكن المقصود التفكير في إمكانية الخروج من شرنقة يناير باعتبارها لحظة يوتوبية مثالية، والتحرر من قدسيتها نحو آفاق أرحب من العمل السياسي والنضالي بشكل عملي واقعي يشتبك مع الأرض بكل قبحها ومساوئها بحثا عن تحقيق أهداف الثورة وشعارتها (العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية). هذا يعني ضرورة الاختيار بين العيش أسرى للحظة بأشجانها وذكرياتها وبين ضرورة النهوض لتجاوزها بحثا عن إجابات عملية للأسئلة الأصعب عن ماذا بعد تعطل يناير؟
السؤال الثاني: هل سنحول يناير إلى مظلومية؟ المظلوميات والبكائيات تصنع هالات مقدسة على أصحابها تلفت الأنظار عن أخطائهم نحو مآسيهم باعتبارهم الفئة المختارة المظلومة تاريخيا. المظلومية هي حيلة تاريخية لصنع كهنوت مقدس جديد تتناقله الأجيال للتباكي على أسطورة الآباء والأجداد دون البحث عن إجابات أكثر تعقيدا عن ماذا بعد البكاء والندب والشجب والاستنكار؟ نعم أزعم أن كل من آمن بالثورة يشعر الآن بالمرارة لكل هذه الدماء وكل هذه الأرواح التي فقدت دون الوصول إلى النتيجة المرجوة، ولكن يبقى السؤال وماذا بعد؟
السؤال الثالث: متى نقيّم أخطاء يناير؟ من أكبر مغالطات العمل العام، الانطلاق من تصور عن رقي بعض الفاعلين السياسيين أخلاقيا عن غيرهم من المختلفين معهم! لم يكن كل من عبر عن يناير "نقي"، ولا كل من عارضها أو تحفظ عليها "متلون"، هي السياسة كالعادة بمساحتها الرمادية، فمتى نخرج عن خانتي الأبيض والأسود لنقيم أخطائنا في هذه المساحة الرمادية ونكف عن هذا الإدعاء بالرقي الأخلاقي والتفوق المعرفي على الآخرين؟ متى يتوقف بعض "نجوم" يناير عن ممارسة التنظير واحتكار الحديث باسم الثورة ويعترف بأخطائه الفادحة على مستوى الحسابات والحركة على مدار السنوات الماضية، ويترك لآخرين المساحة كجزء من عملية التسليم والتسلم الضرورية لإنجاح أي برنامج أو أفكار سياسية؟
السؤال الرابع: هل نسحب يناير من مساحة النخبوية إلى مساحة الشعبوية؟ وكيف الطريق إلى ذلك؟ متى نتوقف عن طرح يناير باعتبارها مبادرة نخبوية لتصحيح أوضاع العامة الجاهلة من "عبيدى البيادة" وعشاق الدونية كما يردد البعض؟ متى نسكت قليلا ونكف عن الحديث باسم الناس ونترك الشعب ليقيم مسار اختياراته وانحيازاته بنفسه حتى يقرر (أو لا) إن كانت بالفعل يناير هي خياره؟ متى ننزل للناس لنحدثهم بلغتهم لا بلغتنا؟ متى نفهم دوافعهم واحتياجاتهم ومحددات حركتهم بدلا من التنظير غير المرتبط بواقعهم؟
السؤال الخامس: هل نتصرف بذكاء وحنكة؟ ليس من الذكاء والحنكة بالقطع أن نغير مبادئنا، أو أن ننقلب على ثورة آمنا بها، أو أن ننافق حكام أو صناع قرار لطالما خاصمناهم وقلنا فيهم ما لم يقله مالك في الخمر كما يقولون! لكنه ليس من العقل في شيء أيضا أن نتحدى الناس في مقدساتها دون أن نشرح لهم لماذا نفعل ذلك؟ ليس من الحنكة أن نهاجم مؤسسات يرونها تدافع عنهم وعن حياتهم دون أن نفصل ماهو شخصي عن ما هو سياسي عن ما هو مؤسسي! من ذهبوا في وطيس المعركة الحامية في التعليق على وفاة ملك السعودية وسعوا لأن تكون تعليقاتهم العنوان الرئيسي لحركتهم أمام الجماهير هل يعرفون كم مصري يعمل بالسعودية؟ كم عائلة يتم اعالتها بواسطة هؤلاء؟ ما هى تأثيرات الرحيل والخلافة على الأوضاع الإقليمية والمصرية؟
السؤال السادس: هل من الضرورى أن نخوض كل المعارك الأخلاقية منها والسياسية؟ هل مفروض علينا أن نسجل موقف من كل صغيرة وكبيرة في البلاد؟ ما هي أولويات معاركنا؟ متى نتعلم اللحظات المثلى للسكوت وتلك المناسبة للتعليق؟ لماذا لا نترك الجماهير والخصوم للتفاعل وننتظر حصاد المعادلة لنخوض بها واحدة جديدة وهكذا، بدلا من دس الأنف واللسان في كل موقف وكل قرار وكل سياسة حتى يَأِسَ منّا العامة؟
السؤال السابع: متى نكسب حلفاء جدد؟ وكيف؟ هل من سبيل لتغيّر تلك الخطب البائسة التي تدعي امتلاك الحكمة والحقائق المطلقة والاستعلاء على الأخر؟ متى نتعلم أن النفس البشرية ضعيفة وكذلك كل نفوس اللاعبين السياسين؟ متى نتوقف عن خسارة الحلفاء المحتملين بدعوى أن أي تواصل مع النظام الحالي هو خيانة للثورة ومبادئها؟ هل كل الحركات السياسية يتم خوضها لتحقيق مكاسب كبيرة أم أن بعضها قد يُخاض فقط لتحقيق الحد الأدنى من تقليل مساحة البطش والتنكيل؟
السؤال الثامن: ماذ نعلم عن الدولة؟ ماذا نعلم عن طريقة إدارة وعناصر قوة الحكم المحلي؟ ماذا نعلم عن الثقافة السياسية لملايين الموظفين المصرين وعن العلاقة بين دواويين الوزارات والمصالح الحكومية فى القاهرة وبين مديرياتها في المحافظات؟ ما هي سبل التوصل إلى استراتيجيات جديدة للإصلاح والتغير المؤسسي وما هو الأثر المجتمعي قبل أن يكون الأثر السياسي لذلك؟
السؤال التاسع: ماهى تصوراتنا عن الإسلام السياسي ولاعبيه؟ هل مازالوا جزءاً من حركة أكبر قادمة؟ أم أنهم خصوم؟ هل من المقبول إعادة التحالف معهم تمهيدا للحظة تغير قادمة أم يجب اعتبارهم منافسين والتعامل معهم الآن ومستقبلا على هذا الأساس؟ هل هناك احتمالية لوجود فاعلين إسلاميين ديمقراطيين؟ من هم؟ وكيف ندعمهم؟ وهل نحن أصلا بالضرورة ديمقراطيون ؟
السؤال العاشر: ماذا ننتظر؟ هل نشتبك مع الواقع الحالي على علاته؟ أم ننسحب بشكل تكتيكي لإعادة الهيكلة والعودة حينما تحين اللحظة؟ أم نتفرغ لكتابة مذكراتنا ونعتزل السياسة؟ وما هي تلك اللحظة المنتظرة للانسحاب أو الاشتباك مع الواقع؟ ثورة جديدة؟ بأى معيار؟ وماهي احتمالية حدوثها؟ وماذا بعد حدوثها من حيث ترتيبات المشهد إقليميا ومحليا ودوليا؟ هل هي لحظة خروج السيسي من السلطة بشكل مفاجئ أو غير متوقع؟ ماذا سنفعل في هذه الحالة؟ وهل هذا يعني سقوط النظام الحالي؟ كيف سيصبح شكل التوازنات السياسية داخل وخارج مصر وقتها؟ وهل لدينا آليات للتعامل مع هذا الواقع إذا ما حدث؟ أم أن المسألة هي مجرد "تار" نريد أخذه حتى تغمض جفوننا مرتاحة؟
***
كاتب هذه السطور لم يتعرض لأي أذى من الثورة! لم يمت..لم يسجن..لم يصب..لم يفقد حاسة من حواسه أو طرف من أطرافه جرّاء مواجهة هنا أو هناك. على العكس، الثورة صنعت مني ومن غيري شخصيات عامة لديها مساحات للتأثير حتى لو كانت محدودة، ومن هنا فواجبي وواجب غيري ليس في مغازلة المشاعر أو البحث عن عبارات سجعية تتنزع الآهات "اللايكات" من هنا أو من هناك، واجبنا طرح الأسئلة الصعبة والبحث عن إجابات لها ولو بعد حين.