هذا المقال بقلم فتحي الشاذلي، مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأوروبية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيف الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
اشتهر فلاديمير بوتين، رئيس روسيا الاتحادية الذي استقبلته مصر أمس، بممارسة رياضات عنيفة، مثل رياضات القتال وعلى الأخص المصارعة اليابانية، وتناقلت وكالات الأنباء صوره وهو يصطاد في غابات روسيا، أو يمتطي حصانه وهو عاري الصدر، أو وهو يداعب الحيوانات البرية التي تنتشر في روسيا مثل النمور والدببة، أو وهو يقود سيارات السباق أو يشترك في رحلة بحثية في غواصة مرة في بحيرة بايكال ومرة لتعقب الحيتان في المحيط. سأله أحد الصحفيين مرة: لماذا كل هذه المخاطرات؟ فعاجله برد تلقائي بلا تفكير: "الحياة مخاطرة".
وقد ولد بوتين في 7 أكتوبر 1952 في مدينة ليننجراد (سانت بطرسبورج حاليا)، وتخرج من كلية الحقوق في جامعة ليننجراد في 1975. أدى خدمته العسكرية في جهاز أمن الدولة، وعمل في ألمانيا الشرقية خلال الفترة من 1985 حتى 1990، عين في يوليو 1998 مديرا لجهاز الأمن الفيدرالي في روسيا الاتحادية، إلى أن اختاره الرئيس بوريس يلتسن ليعمل رئيسا للحكومة، ثم فاجأ يلتسن (الذي كثيرا ما تسبب إدمانه للكحوليات في حرج بالغ لمساعديه) البلاد والعالم بالاستقالة في نهاية ديسمبر 1999 ليصبح بوتين رئيسا بالوكالة إلى أن تم انتخابه للرئاسة في 26 مارس 2000. ويتولى منصبه رسميا في 7 مايو 2000. أعيد انتخابه للرئاسة في 14 مارس 2004 لولاية ثانية وأخيرة حسب نص الدستور ثم تولي في 8 مايو 2008 منصب رئيس الوزراء ليعود إلى الرئاسة بعد فوزه بانتخابات مارس 2012 متناوبا مع صديقه ديمتري ميدفيديف، تولي المنصبين الرئيسيين في البلاد.
***
كانت روسيا عندما تولى بوتين رئاستها لأول مرة دولة مدينة، خائرة القوى لا تزال تلعق جراح الهزيمة التي حلت بها في أفغانستان، مهددة بالانقسام تعاني بحدة من اصطراع فكرة "القومية" مع فكرة "الدولة"، وتفاقم تجليات الفساد واتساع شبكات الجريمة المنظمة، وسرعان ما قام بوتين بكل ما يلزم لوقف النزيف في الجسد والمكانة الروسيين، وليبعث في الشعب الروسي إحساسا بالفخار القومي، ويهتم ببناء القوات المسلحة، ودفع حركة التجديد والابتكار في كل المجالات خصوصا العسكرية، وليأخذ في اتباع سياسة خارجية تضع نصب عينيها المصالح الروسية في المقام الأول خصوصا في الجوار القريب للبلاد – وعلى الأخص في شأن الأزمة الأوكرانية - أو في المناطق التي كانت لروسيا فيها مصالح مباشرة ووجود قوي في القوقاز وآسيا الوسطي والبلقان وأيضا في الشرق الأوسط، خصوصا بالنسبة للمسألة السورية، سياسة لا تكترث بمخالفة التوجهات الأمريكية، بل وتحمل العداء للولايات المتحدة بشكل سافر، فيما استدعى قيام هذه وحلفائها الأوروبيين بفرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا الاتحادية بسبب موقفها من الأوضاع في أوكرانيا. حيث تضافرت هذه العقوبات مع الانخفاض الحاد في أسعار البترول والغاز، من أكثر من مائة دولار للبرميل إلى ما دون خمسين دولارا في غضون شهور قليلة، لتدخل البلاد في مأزق اقتصادي ومالي ثقيل، خصوصا بعد أن أدت الضغوط الاقتصادية على روسيا إلى فقدان العملة الوطنية الروبل لجانب معتبر من قيمتها، بعد أن اضطر البنك المركزي الروسي إلى التوقف عن دعم الروبل (بعد أن كان قد سحب لذلك الغرض 100 مليار دولار من احتياطي البلاد من العملات الحرة) لتنحدر قيمة الروبل إلى أكثر من 52 روبل لكل دولار تراجعا من نحو 30 للدولار في 2013.
***
لروسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي، مكانة خاصة في التاريخ الجمهوري لمصر، بلادنا تحت زعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كانت هي التي قامت بدور رئيسي في كسر الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتي، فعندما رفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون تزويد مصر بالسلاح، بعد مصادمات مهينة مع إسرائيل، تحولت مصر إلى الاتحاد السوفيتي – بداية عن طريق أطراف ثالثة ثم مباشرة – للحصول على ما تحتاجه من عتاد، فكانت صفقة الأسلحة التشيكية منتصف الخمسينيات، وعندما قامت الولايات المتحدة بسحب عرضها لتمويل السد العالي ليحذو حذوها كل من بريطانيا والبنك الدولي، اتجهت مصر إلى الاعتماد على نفسها من خلال خوضها معركة تأميم قناة السويس والاستعانة بالاتحاد السوفيتي كمصدر للخبرة الفنية اللازمة، ولتدخل بعد هذا مع الاتحاد السوفيتي في مشاركة واسعة النطاق شهدت إقامة قلاع صناعية لا تزال قائمة إلى اليوم مثل مصانع الحديد والصلب في حلوان ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي. حرب تحرير سيناء في 1973 التي كانت أول حرب شاملة تخوضها مصر بكل مقدراتها جيشا وشعبا ومؤسسات دولة، على الجبهة وفي العمق، انتصرت مصر فيها وأملت إرادتها على العدو الإسرائيلي فيما كان جيشها يحارب بالسلاح الروسي.
***
ما أشبه اليوم بالبارحة!!! تتجاهل دوائر في واشنطن أن ما حدث يوم 30 يونيو 2013 وما تلاه من إزاحة حكم جماعة الإخوان عن وجه مصر لم يكن سوى تفعيلا لإرادة الشعب المصري التي عبر عنها في خروج مليوني لم يسبق أن شهد له التاريخ مثيلا، وتلوح من ثم بنفس الورقة التي استخدمتها في الخمسينيات: تعليق تنفيذ صفقات سلاح خصوصا من الطائرات العمودية (التي كانت مصر قد دفعت ثمنها) والتي تقر الدوائر الأمريكية المعنية بأهميتها في الحرب المصرية على الإرهاب، فتجد روسيا جاهزة لتزويدها بما تحتاجه من عتاد. وليكون هذا هو أحد الموضوعات التي يفترض أن تكون مطروحة على مائدة البحث بين الرئيسين بوتين وعبد الفتاح السيسي، مع موضوعات أخرى بعضها يشكل تحديات مشتركة مثل الإرهاب (و"الإخوان" مصنفة كجماعة إرهابية في روسيا منذ عام 2003، وقبل شهور قليلة قام أشباه لها بعملية إرهابية في الشيشان أسقطت نحو 20 ضحية) وذلك ضمن مواجهة شاملة لا تقتصر على استخدام القوة المسلحة فقط وإنما لابد أن يكون لها ميادينها الفكرية والإعلامية والاقتصادية، وهي ميادين لن يكون لها مثل مصر بعلمائها ومفكريها ومبدعيها وأزهرها. إبداع تنموي شامل يستهدف تغيير وجه مصر من خلال مشروعات قومية عملاقة، تفتح مصر أبوابها لكل الأصدقاء للمشاركة فيها وبينها الكثير مما يشتهر عن الروس – دولة وقطاعا خاصا متناميا – الإجادة فيها، أوضاع إقليمية إشكالية ومتفجرة خصوصا في سوريا وليبيا والسودان، تهم مصر وتهم روسيا (وهي العضو دائم العضوية في مجلس الأمن).
أهلا بالصديق الفذ القادم في زمن يحفل بالأخطار. وهو الذي يؤمن بأن "الحياة مخاطرة".