هذا المقال بقلم ريم عبد الحليم، باحثة بالعدالة الاقتصادية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وعلاء غنام، مسئول ملف الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
نحن لا نزرع التبغ، ولكننا نستورده، فلماذا لا نمول التأمين الصحي من حصيلة ضرائبه فيما يعـرف بالـEar Marked taxation، فبموجب اتفاقيات مكافحة التبغ الدولية التي وقعت عليها مصر وصدقت عليها بالاحترام والتنفيذ، تزيد الضريبة على التبغ بنسبة سنوية لتمويل الرعاية الصحية. إن فرض الضريبة على التبغ وفق الاتفاقات الدولية المنظمة يتم بحسابات دقيقة تراعي الحفاظ على تأثيره الإيجابي في الحد من الاستهلاك، ومن ثم تخفيف عبئه الضار بالبيئة وبالصحة، وتحصيل موارد مالية كافية لتحقيق الرعاية الصحية وتخفيف الآثار السلبية الناتجة عن التدخين.ومن المعروف أن التبغ ومشتقاته أحد الأسباب الهامة للعبء المرضي في مصر وفي كثير من بلدان العالم، ومن ثم أوصت منظمة الصحة العالمية بأن يتحمل المدخنون جانباً من تمويل العبء المالي للتدخين، في صورة تمويل لنظم الرعاية الصحية المختلفة أو النظم التأمينية المختلفة. وتلك الحصيلة من الضرائب ليست قليلة على الإطلاق، وتسهم فى تحقيق نوع من المساواة الأفقية فى توزيع تكلفة وأعباء المرض اقتصادياً، ذلك أن أمراض التدخين من أكثر الأمراض كلفةً فى مسارات نظم التأمين الصحي.
صدر مؤخراً قرار رئيس الجمهورية بزيادة الضرائب على التبغ ومشتقاته، وقدرت حصيلة الزيادة بما يعادل 5.5 مليار جنيه مصري سنوياً، وكان قد تم إرفاق القانون بقرار من وزير المالية بتخصيص نحو 1.6 مليار جنيه من هذه الحصيلة لتمويل نظام التأمين الصحي الذي يعاني من تردي في جودة خدماته، بسبب العجز التمويلي المزمن الذي يواجهه منذ سنوات. إلا أن عُمر قرار وزير المالية لم يتعد سويعات قليلة، وصدر قرار بالغائه بحجة عدم إمكان الاخلال بمبدأ وحدة الموازنة، حيث تقوم وزارة المالية بعد ذلك فى الوقت الحالى بدعم هيئة التأمين الصحي.
الواقع أن ما حدث لا يعكس مجرد مشكلة قانونية أو فنية بقدر ما يعكس عدم وضوح فى السياسات العامة التي تحكم الرؤية حول تمويل النظام الصحي الجديد الذي تعمل عليه الدولة منذ سنوات، والذي تبرز أهم محاوره في ضرورة السعي لتحقيق تغطية صحية شاملة لكل المواطنين وخاصة الفئات الأكثر حرماناً من الرعاية والحماية الصحية والخدمات إلى جانب محور تمويل تأمين صحي تكون مصادره الأساسية من الاشتراكات التأمينية المقننة، ومن دعم الخزانة العامة للدولة للفئات غير القادرة إلى جانب ما يسمى بالتمويل المجتمعي المتعدد والذي يسمى بالضرائب أو الرسوم غير المباشرة المخصصة لغرض تمويل التأمين الصحي التي تفرض ليس فقط على التبغ ولكن أيضاً على الكحوليات وغيرها من المصادر، مثل الصناعات الملوثة للبيئة وبعض خدمات الطرق والخدمات المختلفة وفقاً لدراسات اقتصادية جيدة لا تضر بحقوق أخرى أساسية الحق فى السكن والغذاء وغيرهما من الحقوق.
ولذلك فقد جاء قرار السيد وزير المالية بالغاء القرار الذي سبقه والمتعلق بتخصيص جزء من عوائد الزيادة الضريبية على السجائر للتأمين الصحى ذي دلالات خطيرة:
أولاً: يأتي مخالفاً للتوجه الاستراتيجي حول مكونات تمويل نظام التأمين الصحي الشامل.
ثانياً: يخالف التوجه الذي برز فى دستور 2014 بوضع الصحة مهمة أولية من مهام الدولة في الوقت الحالي والمستقبل.
ثالثاً: جاء ليمتص حصيلة الضريبة على التبغ ومشتقاته، فى الوقت الذى يحد فيه من القدرة على فرض ضرائب مستقبلية على السلعة نفسها مرة أخرى لتمويل التأمين الصحي.
رابعاً: لا يمكن اعتبار مبدأ وحدة الموازنة ذي أولوية تفوق وجود إرادة سياسية لانفاذ نظام رعاية صحية أفضل للمواطنين، ولعل التساؤلات تثور حول العديد من الموارد المهدرة في صناديق خاصة لا يمكن للمواطن مراقبتها، وإن كانت قانوناً "لا تخالف مبدأ وحدة الموازنة". فقضية "مبدأ وحد الموازنة" من الممكن حلها بسهولة بسبل تكفل حفظ التمويل لحق المصريين فى رعاية صحية أفضل إذا توافرت إرادة جادة لتحقيق هذا الهدف.
فالقرار بإلغاء التخصيص يرسخ كغيره من القرارات الاقتصادية التي صدرت في الأشهر القليلة الماضية، على رؤية الحكومة في أولوية معالجة المشكلات المالية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى كفلها الدستور وأكدتها الاتفاقات التي وقعتها الدولة، وعلى أولوية توفير الموارد لمواجهة المخاطر المالية بصورة محاسبية، مع غض الطرف عن المخاطر الاجتماعية والاقتصادية الناتجة سوء توجيه الإيرادات التي يتم تحصيلها.