هذا المقال بقلم داليا سعودي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
.البحر، يا صاحب السمو، ليس المياهَ والزرقةَ والأمواج، إنه فلسفةٌ كاملة، تبدأ بالخوفِ ثم التأملِ وأخيراً بالتواصل". عبارةٌ وضعها المبدع عبد الرحمن منيف على لسانِ أحد أبطال ملحمته "مدن الملح". أكادُ أسمع أصداءَها تتجاوب فيما أسترجع مشاهد المقطع الأليم لعمالنا المصريين المقتادين في مسيرة الموت على الشاطئ الليبي الموحش. هناك، في اختلاطها بمياه المتوسط، كانت الدماء المصرية وسيلةَ سافكيها لإرسال عدة رسائل في عدة اتجاهات. فذلك هو مقصد التصوير المغرق في أجوائه الكابوسية، شأن غالبية المقاطع المصورة التي تبثها داعش، والتي قيل إن المسؤولَ عنها مخرجٌ أيسلندي. رسائلٌ شتى تحملها رمزيةُ البحر وهي تؤطر مشهديةَ القتل.
(1)رسالة ظاهرية
لا يغرنّك البحر الساكن في خلفية المذبحة. ففي قاع البحر يرقد جثمان أسامة بن لادن الذي جاء ذكره كدافع انتقامي في بيان العملية المعلن. وبصورة أقل مباشرة، البحر في ذهنية الدواعش شاشة عرض تتوالى عليها لقطاتٌ من التاريخ، يجتهدون باستماتة لإسقاطها على واقع اليوم. ففي اليمّ كان مهلك فرعون مصر وغرق جيشه. ومن الساحل ذاته الذي وقف عليه القتلة يتوعدون "أمة الصليب في روما"، انطلقت من شمال إفريقيا جيوش الڤنداليين بقيادة جنسريك لغزو روما المسيحية وتخريبها عام 455م. وبمثل ما جاء في نهاية شريط الذبح المصور، لا ننسى واقعة جريان نهر الفرات بدماءِ قوات تحالف الفرس والعرب المسيحيين، وتحوله إلى اللون الأحمر، بعد أن أوقع فيهم خالد بن الوليد مقتلة في نهاية معركة "نهر الدم" عام 12ه/633م، تحدث بأخبارها كل من الطبري وابن خلدون، واستخدمها داعش في أدبياته لتبرير وحشيته المفرطة في معاملة الأسرى، رغم كون أحد رواة تلك الواقعة متروك الحديث عند مصنفي علم الرجال.
لا أعرف قوماً يحرصون هذا الحرص على ربط أعمالهم الإجرامية بتبرير أخلاقي يستند إلى أصل ديني سوى الإسرائيليين، الذين دأبوا على اقتباس الإحالات التوراتية لتصوير صراعهم مع العرب على أنه قتال داوود لجالوت، والإيحاء بأن انتهاكاتهم الدموية لا تختلف عن ممارسات النبي سليمان وأساطير سليلة الملك يوشيا موحد المملكتين العبريتين. ففي حالتي الصهاينة وداعش، يبدو وكأن الطبيعة الإنسانية في رفضها الغريزي للشر تلجأ إلى انتحال أقدس المرجعيات لتسكين دفاعات الضمير، تمهيداً لذبحه هو الآخر.
الرسالة الظاهرة إذن للعملية هي رسالة انتقام من الأغيار، تقوم على سياسة إجبار العدو على دفع الثمن ولو بعد حين، تلك السياسة التي دأبت داعش ومن قبلها القاعدة على تأكيدها في البيانات التبريرية لعملياتها، والتي يؤكدها زي جوانتانامو المختار للضحايا. وسواء كان الانتقام من الغرب المسيحي على مقتل بن لادن أو من أقباط مصر على اختفاء كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين كما ادعوا، فالحقيقة لا تقف بأي حال من الأحوال عند تلك المياه الضحلة المنسابة على الشاطئ، ولا هي تختبئ في الصور الذهنية الملحمية المستخرجة من أضابير التاريخ، فالحقيقة تسبح ولا ريب في مياه أعمق...
(2) رسالة استراتيجية
.إضرب بقوتك الضاربة وأقصى قوة لديك في أكثر نقاط العدو ضعفاً". هكذا نقرأ في واحد من أهم النصوص التي يستند إليها الجهاديون، وهو الكتاب المعروف تحت عنوان "إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة"، الذي يعد بمثابة المانيفستو التنظيري لتنظيم الدولة الإسلامية. والكتاب، الذي تَسمّى مؤلفُه باسم أبوبكر ناجي وتُرجم إلى عدة لغات، يعرض كيفية الوصول من مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك" إلى مرحلة "التمكين وإعادة الخلافة"، مروراً بمرحلة "إدارة مناطق الفوضى المتوحشة". وبعملية ذبح العمال المصريين على شاطئ درنة، يدشن تنظيم الدولة الإسلامية تمدده إلى ليبيا، حيث تتكامل العناصر لتصنع من هذا البلد تربة خصبة للفوضى المتوحشة، من ضعف السلطة المركزية وتشتتها ما بين حكومة طبرق وجماعة فجر ليبيا وميليشياتها، واشتعال الحرب الأهلية وتفشي التنظيمات الإرهابية، ووجود عمق جغرافي يسمح بإقامة مناطق تدار بنظام إدارة التوحش، فضلاً عن انتشار السلاح المنهوب بين أيدي الناس منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011 بتدبير التحالف الأمريكي الفرنسي البريطاني.
من تلك البقعة الجغرافية المستوحشة، وفي هذه اللحظة الهشة، يوجه داعش رسالته الدامية إلى الدولة المصرية جيشاً وشعباً. ففي وقت بات فيه الجيش المصري آخر الجيوش العربية الكبيرة المتبقية، بلا ظهير عسكري إقليمي، في مواجهة تعنت الغرب، وصراعات الداخل، والوضع المتفاقم في سيناء، تأتي مجزرة ليبيا بعد أيامٍ من مقتل جنودنا في سيناء، معلنةً بهذا الحصار عن مرحلة عسكرية جديدة في ما يسميه كتاب ناجي "مرحلة شوكة النكاية والإنهاك"، موضحاً إن "القاعدة العسكرية تقضي بأن الجيوش النظامية إذا تمركزت فقدت السيطرة، وعلى العكس إذا انتشرت فقدت الفعالية". فالهدف من وراء فتح عدة جبهات شرقية وغربية هو إحداث حالة إخلال في الموازنة بين تكتل الجيش وانتشاره. فهم يدرسون بشدة مواقع الاشتباك، وظرف الاشتباك، ولحظة الاشتباك. ويعمدون إلى ضرب أكبر قدر من الأهداف كماً ونوعاً على أكبر رقعة من الأرض بوتيرة تصاعدية. باختصار، عسكرياً واقتصادياً، المراد لمصر هو استنزاف وتشتيت وإنهاك وعجز عن التقاط الأنفاس ما بين ضربة وضربة، بمثل ما حدث مع الاتحاد السوفييتي في حرب أفغانستان، تمهيداً - كما يقول الكتاب- لـ"إخراج المناطق المختارة من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذي سيحدث فيها".
هذه "المناطق المختارة" هي بالطبع "ولاية سيناء".
هذا ولن يكون هذا الاستنزاف محض عسكريٍ واقتصاديٍ، وإنما سيكون اجتماعياً أيضاً. فضمن رسائل البحر الملوث بالدم رسالةُ استقطاب موجهة إلى شعب مصر، يعبر عنها أبو بكر ناجي في كتيبه المشبوه بقوله : "نقصد بالاستقطاب هنا هو جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس-كل الناس- استقطاب." والاستقطاب هنا لا يُراد به إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين بقدر ما هو يرمي إلى إحداث مزيد من الشقاق بين المسلمين والمسلمين، وإلى إحداث مزيد من اللبس الهستيري بين السياسي والوطني، ومزيد من الخلخلة للنسيج المجتمعي، في ظل مقولات تعلي من السياسي على حساب الوطني، بل وتحط من مشاعر الوطنية وتصف دعاتها بالكفر والردة، وتروج لكافة أسباب الشقاق وتبث العنف وكراهية شركاء الوطن.
فهل من مسمع يعي ويبلغ ما تقوله رسائل البحر الملوث بالدماء؟
(3)رسالة أيديولوجية
على الساحل الليبي، وقف الجلادون بثيابهم السوداء وقاماتهم المديدة ولسانهم الأعجمي يوجهون رسالة تحدٍ للعالم، مفادها أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي "أمة السيف". وهي رسالة موجهة أيضاً للمسلمين حول العالم ممن خرجوا في مظاهرات رافعين لافتات المؤازرة بعد مذبحة شارلي إبدو، ولاءً لقيم الجمهورية وموادعةً ومسالمةً لشركائهم في المواطنة والإنسانية. فقد حمل غلاف الإصدار الجديد من مجلة "دابق" صورةً لشيخين مسلمين يحملان لافتة "أنا شارلي" وقد كُتب من تحت الصورة "من النفاق إلى الردة"، ليشدد أحد مقالات العدد على "اختفاء المنطقة الرمادية بين الحالتين".
وهي الرسالة التي يصدرها داعش في هذا العدد الدامي من مجلته، الذي لا يبدأ هذه المرة كالمعتاد بصور الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة، بل يُستهل مباشرةً بصور ذبح الرهينتين اليابانيتين، تليها صورٌ مفزعة لجثمان الطيار الأردني معاذ الكساسبة بعد تفحمه، إضافةً لصور الرجم والحرق والرؤوس المقطعة وإلقاء الشواذ من أعلى البنايات، فضلاً عن حوار مع حياة بومدين زوجة أحمدي كوليبالي منفذ عملية المتجر اليهودي في أعقاب هجمات شارلي إيبدو، ومقال يهاجم الرئيس المصري السابق محمد مرسي لتراخيه مع الغرب ومهادنته إسرائيل وتقصيره في تطبيق الشريعة. فرسالة المرحلة لخصها داعش في مقالة تحت عنوان: "الإسلام هو ديانة السيف لا السلم" مفادها يتفق مع ما جاء في كتاب "إدارة التوحش" من "وجوب إعتماد الشدة المطلقة" لكون الجهاد بحسب تعريفهم المتطرف في أقصى جموح راديكاليته "ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان".
***
تلك هي الصورة التي يريد داعش أن يصدرها عن الإسلام بواسطة جهاز إعلامي فائق المقدرة، وسياسة إعلامية تنجح في توصيل رسائلها لشعوب الأرض لا للنخب فحسب، فتبث الخوف وتثير التأمل وتصنع التواصل كما جاء في حديث منيف عن البحر. "الجانب الاعلامي هو ظهرنا الذي نحتمي به". هذا ما كتبه ناجي في "إدارة التوحش". لتصل الرسائل إلى الشعوب ولصغار الجند وللمرشحين المحتملين للانضمام من شتى بقاع الأرض إلى الرايات السوداء المتمددة عبر الأفق. وعبر الزمان أيضاً. ففي مقطع مصور يدير أحد الدواعش حواراً مع طفل أشقر لامع العينين لا يتجاوز عمره السابعة. يسأله : ما اسمك؟ فيجيب الصغير بلغة عربية تامة وهو يلتهم قطعة حلوى بنهم صغار الكواسر :" أبو قتادة. من فرنسا. وأنتمي للدولة الإسلامية!"