هذا المقال بقلم مصطفى النجار، عضو مجلس الشعب السابق، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN
كواحد ممن ولدوا في 1980 لم أرى أنا وجيلي من القومية العربية سوى أغنية (وطني حبيبي الوطن الأكبر) التي جمعت نجوم الغناء بالوطن العربي في الستينات. وظلت حاضرة في ذاكرتنا التي لم تعاصر أيام المد القومي والحقبة الناصرية التي تبنت هذا الاتجاه دون أن تصنع فيه تراكما إيجابيا بل للأسف تراكمت ذكريات سيئة بدءا من انفصال السودان عن مصر ثم حرب اليمن والعداء مع السعودية، والملكيات العربية بشكل عام، والوحدة الفاشلة مع سوريا. وربما لم يتبق من ذكريات إيجابية سوى تجربة الجزائر التي نقرأ عنها ووصلنا منها ما قد نعتز به ونفتخر.
جيلنا نشأ في مصر على صور ذهنية نمطية تصور لنا بلاد الخليج وليبيا كأماكن لفرص العمل الجيد وعمل (تحويشة العمر) في نفس الوقت الذي كانت تطاردنا فيه صور سلبية للكفيل ولأصحاب العمل من الأشقاء العرب الذين صورتهم السينما والحكايات المتواترة كأناس شديدي القسوة يقومون بإهانة المصريين والتنكيل بهم. ولم تتزن تلك الصور المركبة إلا حين أدركنا خطأ التعميم والحكم على الأمور من ظواهرها، ورأينا نماذج إيجابية لمصريين تغيرت حياتهم للأفضل بسبب العمل في هذه البلاد ولم يجدوا فيها غير كل ترحيب وإكرام.
ربما كان حظ جيلنا السيء أننا جئنا بعد قطيعة السادات مع العرب عقب كامب ديفيد، لكن مبارك أيضاً لم يستعد حالة الزخم القومي العروبي، وأبرز لحظات التضامن العربي في عصره كانت مشهد المشاركة في حرب ضد دولة عربية أخرى هي العراق الذي قام باحتلال دولة شقيقة لتدشن مرحلة جديدة من الشتات العربي والتيه الذي ما زلنا نعيش آثاره رغم قيام ثورات الربيع العربي.
السؤال الذي يراود المرء كثيرا وقد يبدو ساذجا وقد يبدو صعب الإجابة في نفس الوقت، هل من الممكن أن تقوم دولة العرب الكبرى؟ قد يتبادر للقارئ سؤال حول ماهية دولة العرب الكبرى؟ الحقيقة أن خرائط الشرق الأوسط التى رسمها الاستعمار ويعاد رسمها الآن في البلاد العربية التي سقطت في فخ الفوضى هي خرائط لا معنى لها في إقليم يجمع بينه مقومات متعددة منها الدين واللغة والثقافة والتاريخ ووحدة المصير وكذلك وحدة العدو، فما الذي يجعل قيام دولة العرب الكبرى حلما بعيد المنال؟ تستطيع أن ترصد عدة أسباب لفشل العرب في بناء كيانهم القومي الذي يصنع الاتزان أمام مشروعات قومية أخرى كالمشروع التركي والفارسي وغيرهما من المشاريع التي صارت أمرا واقعا في معادلات التأثير اليوم.
أولا: عدم إدراك قيمة الوحدة وضرورة بناء كيان جامع يقوم على أسس منطقية وموضوعية وعادلة وعقلانية تراعي الفروقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل دولة.
ثانيا: انهيار الثقة في إمكانية تحقق المشروع بسبب التجارب السلبية السابقة التى جعلت من يتحدث عن الوحدة العربية مادة للتندر والسخرية.
ثالثا: عدم وضوح الرؤية تجاه مفاهيم متقاربة لكنها مختلطة بعض الشىء مثل الوحدة أم التكامل أم التضامن أم التعاون حيث أن مدلول كل كلمة يخلق إطارا ما ويفتح أفق مختلف عن المدلول الآخر ورغم مرور عدة عقود من الزمان ما زلنا نتخبط بين هذه المفاهيم ولا نعرف ما هو الأنسب والأكثر واقعية.
رابعا: انكسار التيار القومى بشكل عام وتراجع خطابه بعد أن دفع ثمن ارتباطه بأنظمة ديكتاتورية وفاشلة قادت بلادها لنكسات جعلت الشعارات التى كانت ترفعها سيئة السمعة لدى الجماهير التى عزفت عن مشاريعهم البائسة.
خامسا: غياب الزعماء الذين يمتلكون كاريزما تتجاوز الحدود وتلهم بخطابها تلك المشاعر المكبوتة والدفينة لدى كل عربي يحلم بالوحدة وينتظر تحققها قبل موته.
سادسا: صراع (الأنا) بين الزعامات السياسية والأنظمة التي تخاف من فقدان سيطرتها الداخلية أو تراجع مكانتها وميزاتها ومكتسباتها الحالية والمتوارثة.
سابعا: غياب الديمقراطية الحقيقية كنموذج في أغلب البلدان العربية التي ما زالت تحكم بديموقراطية كرتونية مشوهة وهذا يخلق خوفا لدى كهنة المعبد من تفشي عدوى الديموقراطية واالمطالبة بها من دولة لدولة.
ثامنا : الخوف المرضي والذي قد يكون مبررا أحيانا وغير مبرر في أحيان أخرى من رد الفعل الدولي على نشوء تلك القوة الصاعدة والتي ستغير بلا شك خريطة العالم وتعيد تشكيل تحالفاته وتغيير معادلاته.
تاسعا: استصحاب مفهوم المهزومية وروحها المتأصلة الآن في كل مواطن عربي ينام ويستيقظ على رسائل سلبية تخبره أنه متأخر عن الدنيا وأنه لا مكان له في الصراعات الكبرى وأن قدره أن يظل في دور المتفرج الذى يصنع له من حوله قدره ومصيره وحاضره ومستقبله.
عاشرا: إغفال الطفرة الجيلية الشبابية التى صارت تصبغ أغلب الدول العربية لتجعل الغالبية السكانية للشباب تحت 35 سنة والذين يختلف تكوينهم النفسي والفكري عن آباءهم وأجدادهم وقد يتعاملون مع فكرة الوحدة بروح عصرية مختلفة تجعلها قريبة المنال وواقعية للتطبيق.
في ظل صعود مشاريع إقليمية تعتمد القومية وأحيانا المذهبية الدينية كمرجعية وفي ظل تصاعد التحديات التي صارت تهدد الأمة العربية نحتاج إلى نسخة جديدة من المشروع القومي تتسم بالحداثة والعصرية وقراءة الواقع، لذلك فالنقاش حول تفاصيل دولة العرب الكبرى لا بد أن يعود بلا شعارات ولا جعجعة بل بمنطق ورؤية.