هذا المقال بقلم فاروق حلمي، قنصل مصر العام الأسبق في هونج كونج، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أطلقت الصين حملة شعواء ضد الفساد منذ أواخر 2012، عندما قرر زعماؤها الجدد حاجة البلاد لإصلاح جذري للقضاء على مظاهر التسيب والفساد المتصاعدة، وما أدت إليه من إهدار للموارد ومن تذمر الشعب وانصرافه عن تأييد الحزب والسلطة.
وأعجب كيف نتجاهل هذه التجربة التي تجري أمام أعيننا رغم مرور عامين عليها وإحرازها لنتائج فعالة، في حين نعاني من مظاهر مشابهة يوميا في مجتمعنا، وتفيد مسوح دولية بأن بلادنا يأتي ترتيبها ألـ 94 بين الدول من حيث الفساد العالي لقطاعها الحكومي (الأولى هي الأقل فسادا)، وأن القطاع الخاص بها هو الأكثر فسادا في العالم.
وتستهدف حملة التطهير الصينية ليس فقط جرائم إساءة استغلال السلطة والرشوة والاختلاس والإثراء غير المشروع، وإنما أيضا مخالفات البيروقراطية والمظهرية والإسراف والتقصير وانتهاك المصالح الشخصية وحقوق المواطنين.
وقد أظهرت التقارير الرسمية أن أجهزة فحص الانضباط التابعة للحزب الشيوعي عاقبت 232 ألف مسئول على جميع المستويات خلال 2014 بزيادة سنوية 30%، وتمت محاكمة 72 ألفا لجرائم وظيفية منها الاختلاس والرشوة والإهمال في الواجبات ومنهم على مستوى وزاري أو أعلى، ونحو 8 آلاف من مقدمي الرشاوى. وانطوت الأحكام على الإعدام والسجن لمدد تصل لمدى الحياة مع الحرمان من الحقوق السياسية ومصادرة الثروة. بينما تضمنت عقوبات الانتهاكات الأقل الطرد من صفوف الحزب وتخفيض درجة المنصب أو التنحية منه، ونشر الأسماء علنا في "قوائم العار". فضلا عن إقالة المئات من وظائف بالشركات جمعوا بينها وبين مناصبهم الحكومية.
كذلك حقق المدعون مع أكثر من 400 مسئول بالهيئات النيابية وتمت معاقبتهم، بخلاف أكثر من ألفين من القضاة وموظفي المحاكم لانتهاك اللوائح والقوانين.
وتم في العامين الماضيين معاقبة أكثر من 780 ألف مسئول بإجراءات عقابية انضباطية، لمخالفتهم لقواعد الحزب الخاصة بمكافحة البيروقراطية والشكلية والإسراف والإهمال، وكان 38 ألفا منهم بسبب الأخير.
***
ويقضي النظام المطبق بأن تحقق اللجنة المركزية للانضباط والرقابة التابعة للحزب في حالات الاشتباه في الفساد، ثم تحيلها للمدعين العامين للمحاكمة الجنائية اذا ما كانت هناك جرائم، بينما تهيء لتطبيق الحزب لجزاءات تأديبية على المخالفين للانضباط دون الارتقاء لمستوى الجريمة. وقد أنشأت مكاتب في الوزارات والمؤسسات الاقتصادية والمقاطعات للمراقبة، وتواصل إرسال فرق للتفتيش على سلامة سير العمل وتكشف المخالفات بها.
وأعلنت هيئة الادعاء العام هذا الأسبوع موافقة الحكومة على إنشاء "مكتب أعلى لمكافحة الفساد"، على مستوى نائب وزير ويضم عشرات المدعين المتميزين، ودمج أجهزة قائمة فيه وهي: مكتب مكافحة الفساد والرشوة، وادارة منع الجرائم المتصلة بالعمل، وادارة التحقيق في اهمال الواجب واساءة استخدام السلطة.
وأمرت السلطات بالتطبيق الحازم للقواعد المطالبة بإبلاغ المسؤولين عن أصولهم ودخولهم هم وأسرهم وأي أنشطة استثمارية لهم، وأنشأت مواقع على الانترنت لتلقي شكاوى المواطنين (بلغ عددها 72ر2 مليون العام الماضي)، وعززت النيابة العامة أعمالها في جمع الأدلة وحماية المبلغين والشهود.
وتتضمن المعايير الموضوعة بوضوح الآن قواعد تحكم امتيازات المسئولين، وفقا لحزم متباينة ترتبط بمستوى المسئول وتتضمن المنازل والسيارات والحفلات والاجازات والسكرتارية والحراسة الأمنية، لضمان تمتعهم بما يتمشى مع مستوياتهم أثناء شغلهم للوظيفة فقط.
***
ولم تسلم أعلى قطاعات المجتمع من حملة التطهير وإنما امتدت لصفوف الحزب ذاته. ومن بين من طالهم التحقيق والعقاب عضو باللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب، ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية وهو الثاني فيها بعد رئيس الدولة شي جين بينج، وما يعلن يوميا عن معاقبة كوادر عالية ومنها تجريد 39 نائب بالهيئة التشريعية العليا (البرلمان) من مناصبهم، وطرد 14 مستشارا سياسيا أعضاء بالمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب للاشتباه في الفساد العام الجاري.
وامتدت الحملة إلى الجيش حيث يتواصل التفتيش على إساءة استخدام النفوذ في صفوفه وتمتع أفراده بمزايا غير مشروعة، إلى جانب تلاعب كبار الضباط في اختيار العاملين وترقيتهم وفي مشروعات البناء والعقارات وشراء المعدات، ومعاقبة الضباط الذين اشتروا مساكن أكثر من المسموح به أو باعوا مساكن تابعة لمشروعات الجيش لخارجه وغير ذلك. وطالت الحملة مؤخرا 14 جنرالا يتم التحقيق معهم أو حولوا للقضاء العسكري، بالإضافة لرفع دعوى فساد أمامه ضد نائب وزير الدفاع للوجستيات العامة بتهمة الرشوة والاختلاس.
كما امتدت أيضا إلى الشركات الـ 153 التي تديرها للدولة بفروعها، وصدرت قرارات بتخفيض رواتب مديريها التنفيذيين ومعظم مسئوليها ونفقاتهم، مع استرجاع ما تم صرفه منها بعد التقييم اذا لم يكن عملهم جيدا.
وتوسعت الحملة لتتضمن المجال الاعلامي، للتصدي للأخبار الملفقة ومنع الصحفيين والصحف من ابتزاز الأموال مقابل القصص الخبرية، مع الاستعانة بمنابر إلكترونية للإبلاغ عن الممارسات الخاطئة.
وهذا بالإضافة لحظر تلقي المعلمين لهدايا من الطلاب أو آبائهم وحضورهم لولائم تعدها الأسر، ومنع تمتعهم بأنشطة ترفيهية يدفع الطلبة أجرها، أو بيع كتب وسلع حية لهم. ويتم نشر أسماء المخالفين لفضحهم وعزل المخالف منهم بشدة أو إحالته للقضاء.
***
وقد حققت الصين نتائج لافتة من وراء حملتها الضارية، حيث لم يعد المسئولون أحرارا في اكتساب مميزات من مناصبهم، وأعاد مسئولون كبار سيارات وشقق تملكوها بطريقة مخالفة للوائح، وأوقف تنفيذ مشروعات غير متمشية مع القواعد، وألغيت الرحلات غير الضرورية للخارج، وتقلص كثيرا الانفاق من الأموال العامة على الشكليات والسيارات والمآدب والحفلات وخلافه.
وتمكنت السلطات من إعادة أكثر من 500 مسئول هارب للخارج مشتبه في ارتكابهم لجرائم اقتصادية من 17 دولة وإقليم في إطار ما يطلق عليه "صيد الثعالب"، منهم 231 سلموا أنفسهم أملا في أحكام أخف، بعد أن أبرمت اتفاقات لدعم التعاون في مكافحة الفساد مع دول مثل أمريكا وكندا وأستراليا وغيرها. وأسفرت الجهود عن استرداد أكثر من 3 مليار يوان مهربة للخارج.
ولاشك أن الحملة تفيد في استعادة الثقة بين المواطنين وبين الحزب والحكومة من خلال اثبات جديتهما في العمل من أجل تحسين مستوى معيشتهم، وما لذلك من مردود على مساندة الجماهير لجهود الدولة وتوجيهاتها.
***
وما أحوجنا اليوم لأن نقتدي بالصين في ظل شيوع الفساد في مجتمعنا، وما يسببه - هو والتغاضي عنه طويلا وحتى الآن - ليس فقط من تبديد للموارد ومزيد من حرمان الطبقات الكادحة وتوسيع لفجوة الثروة وانعدام العدالة الاجتماعية، وإنما أيضا تغذية التدهور الأخلاقي المستمر الناجم عن بث قيم قبيحة وضارة في نفوس المواطنين وتنشئة الأجيال الجديدة عليها.
ولذا فإن الرئيس السيسي ونظامه مطالبان بإطلاق حملة قومية جادة لمحاربة الفساد، وإنشاء "هيئة عليا مستقلة" تدير هذه الحملة مع إدماج الأجهزة الرقابية فيها وتشجيع المواطنين والإعلام على دعمها، حتى يتم ردع المفسدين ومن تسول لهم أنفسهم، وتطهير المجتمع وأخلاقياته، وغرس قيم أفضل مثيلة لما ساد في الماضي، وتوفير الموارد، وحشد طاقات الشعب وتعاونه مع الدولة في اعادة البناء.