صلاح أبوالفضل: عفوا شيخ رفاعة لا نريدك فى البرلمان

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
صلاح أبوالفضل: عفوا شيخ رفاعة لا نريدك فى البرلمان
Credit: Ed Giles/Getty Images

هذا المقال بقلم صلاح أبوالفضل، وهو طبيب نفسي مقيم في المملكة المتحدة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- ذات مرة منذ أعوام خلت كنت في زيارة للقاهرة، وأخذني صديق لمعاينة سيارة كان يريد شراءها وقدمني لبائعها كصديق يعيش في الخارج، وحين رأينا السيارة خطر لي أن اسأل البائع كم كيلومترا قطعتها السيارة، وهي أبسط طريقة لتحديد مدى جودتها، واستغرب البائع السؤال ولم يعلق لكنه انتحى بصديقي جانبا وهمس له قائلا: "دعك يا أستاذ من هؤلاء القادمين من الخارج فهم (موسوسين) وليس منهم غير وجع الدماغ"، يومها ضحك صديقي وقال لي بعدها "هكذا ينظر الناس هنا لكم يا بتوع الخارج."

وكثيرا ما أتذكر هذه القصة كلما سمعت كلاما عن المصريين بالخارج، وهو تعبير له دلالات كثيرة غير مريحة أهمها أنهم لا تراد منهم العودة ولا ترجى لهم المشاركة، وحسنا يصنعون لو ظلوا هناك بالخارج ينعمون بالحياة الرغدة، يريحون ويستريحون.

 وتذكرتها مؤخرا عندما شرفت بحضور أحد لقاءات السيد رئيس الوزراء بالقوى السياسية لمناقشة تعديلات قانون الانتخابات بعد حكم المحكمة الدستورية، وجرحني بشدة صياح بعض الحاضرين ضد مساواة مصريين الخارج بإخوانهم في المواطنة وبالذات عندما استعرت صيحاتهم تزعم أن ازدواج الجنسية هو دليل ازدواج الولاء للوطن، وأنه مدخل للتجسس، وحذر بعضهم من خطر دخول من يحمل جنسية إسرائيلية أو أمريكية إلى البرلمان أو الحكومة فينهار الوطن ويضيع. لم أحزن للتجريح والإهانة بقدر ما أحزنتني السطحية في التناول والتجهيل المتعمد، وقد كانت المصيبة مزدوجة تماما كازدواج الجنسية المتهمة، إذ تناسى المخرصون أن عمليات الترشح للبرلمان ومناصب الدولة لا تتم عشوائيا بل يخضع كل من يتقدم للعمل العام في عصرنا الحديث لعمليات فحص واجراءات تدقيق رسمية وغير رسمية تتيح قدرا عاليا من الشفافية. ونسوا أن نهضة مصر الحديثة جاءت نتيجة للموجات المتعاقبة لبعثات الشباب المصري للخارج في القرنين الماضيين.

ولو كان رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في عصرنا الحديث حيا بيننا لربما وجد كثيرين ممن ينكرون عليه واجب المشاركة في الحياة السياسية ويضيقون ذرعا بنصائحه عن باريز وتخليص الإبريز، فهو ممن يمكن أن يطلق عليهم تعبير المصريين في الخارج. ومثال ذلك الدكتور طه حسين رائد العقلانية والحداثة وصاحب صيحة التعليم كالماء والهواء كان سيواجه موقفا أكثر حدة فهو ليس فقط من المصريين في الخارج ذوي الأفكار المرهقة والدعاوى المقلقة لكنه كان أيضا ممن ارتكبوا خطيئة الزواج من فرنسية ولابد لمثله في عصرنا أن يكون قد سعى للحصول على الجنسية الفرنسية ليتمكن من السفر والتنقل وعليه فإن ولاءه لمصر كان سيعتبر منقوصا أو مشكوكا فيه وقبوله بالبرلمان كان سيحدث لغطا كثيرا.

ورغم أن المحكمة الدستورية العليا قد أنصفت أحفاد طه حسين من المصريين الذين اضطرتهم الغربة إلى الحصول على الجنسية الثانية كضرورة عملية للحياة في الخارج إلا أن المواقف غير الرسمية من المصريين في الخارج لاتزال سلبية مائعة وليس أدل على ذلك من أن بعض الجهابذة تفتقت أذهانهم عن حلول للالتفاف على حكم المحكمة الدستورية، إذ اقترح بعضهم أن المصري الحاصل على الجنسية الثانية يجب أن يكون قد حصل على موافقة وزارة الداخلية قبل التقدم لها، وبذلك يمكن التخلص من معظمهم إذ لم يكن ذلك الشرط ذائعا أو معروفا من قبل. وهكذا تستمر لعبة الإستغماية بين الحرس القديم في الدولة وبين رياح التغيير والتقدم التي هبت بها ثورة 25 يناير وأكدتها في 30 يونيو.

هذا القصور في نظرة بعض قوى المعارضة وبعض أجنحة النظام لقضية المصريين في الخارج يعكس المشكلة الأوسع وهي أن العمل السياسي لا زال في بداياته ولا زالت تغلب عليه النزعات الفردية. وقد اتضح ذلك في لقاء السيد رئيس الوزراء حيث كانت المداخلات أكثر من النقاش، وترددت آراء عديدة بعضها قيم ومنطقي وبعضها جاء مكررا وكأن المتحدث لم يسمع ما قيل، وكان واضحا غياب التنسيق بين المتحدثين حول حد أدنى من المطالب، وكان رئيس الوزراء يستمع بصبر لكنه كان واضحا أنه لن يستطيع الأخذ بكل الآراء. وتبين لي لماذا لا تنصت الدولة رغم أنها تستمع كما قال الدكتور نور الدين فرحات، ولماذا لم تشكل القوى الوطنية المختلفة في أي وقت من الأوقات أي كيان بديل يصلح للقيادة، ذلك لأنها تظل منقسمة ولا يوجد بين أجنحتها المختلفة رغبة في التنسيق أو إحداث أثر مشترك عند السلطة. وأدركت أيضا لماذا لا توجد رغبة حقيقية في إشراك المصريين من الخارج، فالمجال مزدحم على حاله وليس فيه متسع لسفسطات جديدة أو وسوسات مستوردة حتى لو جاء بها رفاعة الطهطاوي نفسه، فالهدف لازال بعيدا عن التقدم والنهوض. الهدف لازال طموحات شخصية وانتصارات صغيرة بحجم حائزيها، ولهذا ستظل الحكومة، أي حكومة تنظر لقوى المعارضة بذات الاستخفاف المهذب لأنها بكل بساطة خفيفة فعلا.

وقد تأكد لي أن حدوتة المصريين في الخارج لم تلمس خيال المشتغلين بالعمل العام بعد، وأنها مثل بقية شعارات الثورة تتحول تدريجيا إلى عبارات فضفاضة رنانة دون تأثير حقيقي. وأسرح بفكري في عدونا الصهيوني الذي تحتفظ دولته بأرشيف كامل عن كل يهودي في كل بقعة من العالم تستعين بهم وتوظف خبراتهم كيفما تحتاجها. ثم أسرح بفكري إلى حكومة بريطانيا التي استعانت بخبير كندى لإدارة بنكها المركزي لينقذ الإسترليني ويقيل الاقتصاد من عثرته، ولم يصرخ أحد فيها عن ازدواج الولاء، وأتحسر وأتمنى، واتذكر كيف اتخذ الرئيس السيسي عددا من مصريي الخارج كمستشارين ضاربا المثل لجهاز الدولة. لكن الجهاز العتيد لا يريد التعلم، والنخبة الموقرة لا تريد المزاحمة. فرجاء يا سيادة الرئيس ألا تيأس فالتغيير والتقدم هما أمل هذه الأمة.