كاتب هذا المقال هو إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان، وهو يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN
(CNN)-- أعلن الرئيس السيسي فى الاحتفال السنوى بالمولد النبوى حاجة مصر إلى ثورة دينية، وقد تواكب إعلانه هذا مع دعوة تنقية التراث، وهنا تحركت الدولة الدينية العميقة متجاهلة تعبير الرئيس عن الثورة الدينية بل وتحجيمه في تعبير قديم متهالك "تجديد الخطاب الدينى" ومن المعروف أن الخطاب الديني في تجلياته كوعظ مباشر أو مقالات وبرامج إذاعية وتليفزيونية ...إلخ يأتي إما نتيجة فكر ديني متشدد محافظ أو سلفى أو فكر دينى متجدد ثائر مستنير.
إذن كان المطلوب تجديد الفكر وليس مجرد الخطاب، لكن الملاحظ أن الجميع تجاهل تعبير "ثورة دينية" لأن الثورة تعنى تغيير المفاهيم بنظرة حاضرة ومستقبلية تتأسس على تأويل جديد للنصوص الدينية والتراث الدينى دون المساس بالمفهوم الأساسى والعام للنص الدينى أو التراث، لكن بتقديمه بتفسير وتأويل يناسب ظروف العصر ومقوماته، وهذا يحتاج إلى عقول فقهية غير تقليدية لها رؤية مختلفة فى تأويل النصوص. وهذا لا يتم إلا بدراسة المكان والزمان والبشر الذى تحدث فيه الوحى ثم استخراج من النص المبادئ العامة التى تصلح لكل زمان ومكان مثل مبدأ العبادة المخلصة لله، والسلوك المطابق للنصوص والتراث، والعدالة والرحمة إلى آخره. ثم نقل هذه المبادئ وإعادة تفسيرها طبقا للحضارة الحديثة التى نعيش فى ظلها. فمثلا مفهوم الإخلاص فى عبادة الله اليوم ليس هو كما كان قديماً أن يقضى الإنسان يومه متعبداً أو يعذب نفسه صوماً وحرماناً بطريقة مبالغ فيها تمنعه من أداء واجباته الأسرية أو الوظيفية أو الوطنية. فالعبادة اقتراب وليس تفرغاً للعبادة ومن خلال ممارسة العبادة والاقتراب إلى الله تبنى خليقة الله فكرياً وصحياً ونفسياً وهنا يصبح إتقان العمل والإخلاص فيه هو العبادة الحقيقية لله دون تَزيُّد بتقشف وإنهاك للجسد الذى خلقه الله لنا ليكون طاقة نور وإصلاح للمجتمع.
وهكذا فمبدأ العدالة فى القديم كان يطبق بقسوة شديدة على الإنسان المخطئ للردع. أما اليوم فالعالم كله يتجه لإلغاء عقوبة الإعدام لأن العقوبة فى مقصدها الإلهى تصحيح فكر المجرم وتوبته وإعادة استخدامه لعقله وجسده لا للجريمة لكن للصالح العام لنفسه وللآخرين وإذا أعدم المجرم لن يتحقق الهدف من العقوبة ولن يتم الإصلاح. وردع الآخرين لا يبرر فناء شخص أومحوه من الوجود هذا فضلاً عن أن إعدام مظلوم من المستحيل إعادته للحياة لتصحيح خطأ القضاء البشرى وقد حدث هذا كثيراً.
لقد عظمت الحضارة الحديثة الحياة الإنسانية ... و هكذا لا شك أن النصوص الدينية والتراث والتقليد نصوص رائعة، وإن كل الاجتهادات الحديثة تعود إلى النص الدينى والتراث وموضوعاتهم تغطى أهم الأنشطة البشرية. إذن نستطيع أن نردد مع الفيلسوف دريداعن هيجل "إن ما يواجهنا اليوم إنما هو قديم مخبأ فى التاريخ" وإحدى الحكم القديمة تقول "لا جديد تحت الشمس" وحقيقة ما نظنه فكراً جديداً سوف نجد أصله أو شبهه فى الكتب القديمة والنصوص المقدسة.
هنا لابد لنا أن نميز بين تعبيرين هامين يبدوان متطابقين وهما غير ذلك تعبير "الإعادة" وتعبير "التكرار" ولكى نفرق بينهما نقول "الإعادة ضرورة والتكرار فائض" ويمكن القول: "الإعادة ليست إلا ضرورة أما التكرار ففيه فائض" فيه كل الفائض. إن الإعادة هي تطابق فكرة ما بين وجودها فى الماضى وحضورها اليوم أي إعادة الفكرة فى الحاضر كما هى بتفاصيلها وتعبيراتها، بمعنى تطابق بين وجودها فى التاريخ وحضورها اليوم "وبمعنى أبسط الإستشهاد بآيات الوحى التى نزلت منذ مئات السنين مع تفاسيرها وفقهها القديم وترديد التفاسير والفقه الذى يعلق على النصوص كما هو دون تجديد فى الفكر.
هذا الأسلوب الذى يتبع الآن ونحن فى القرن الحادى و العشرين يجمد الكائن ويبلد الفكر ويقمع الخيال ويكلس اللغة ويخشب الكلام وهو ما نلمسه فى معظم العظات التى نسمعها فى الكنائس والمساجد وفى معظم البرامج الدينية والكتب الصادرة، هنا يتكرس التقليد فنسير بأبداننا إلى الأمام ووجوهنا تنظر إلى الخلف فتقع الكوارث التى نراها ونسمعها كل يوم.
أما ظاهرة داعش وما يشابهها من جماعات، وظاهرة الإقلال من دور المرأة فى المجتمع وكبت الحريات والمحاكم العرفية مع إهمال القانون إلا تنويعات على ظاهرة الإعادة أما التكرار فهو ليس عودة المطابق، التكرار هو إعادة قراءة النص المقدس والتراث وأخذ المكرر إلى منحى آخر، نحو آخر، تفسير مختلف حديث يناسب العصر والحضارة وإنسان مجتمع اليوم، وهذا ما يطلق عليه "انبثاق جديد فى عملية الاستعادة والترديد".
التكرار إذن هو ما وراء ديناميكية خلق الهوية المنفتحة. فالهوية المنغلقة لنا "فراعنة مصريون مسيحيون أو مسلمون شيعة أو سنة أو ارثوذكس أو كاثوليك أو إنجيليون". هذه الهوية يمكن أن تعتقلنا داخل تاريخ كل عنصر منها، تضعنا فى زنازين عصور قديمة دون نظر أو تفاعل مع الحضارة الحديثة، باللغة العربية الحديثة بمفردات الحداثة وما بعد الحداثة، بمفردات الميتافيزيقيا وما بعد الميتافيزيقيا، هذا إذا كنا نتبنى الإعادة، لكن لو تبنينا التكرار فهذا معناه الهوية المنفتحة المكررة لهويتنا القديمة الأصيلة مع فائض العصر اللغات الجديدة وإضافات مصطلحات على لغتنا القديمة وتحديثها وأيضاً فائض على هويتنا القديمة ثقافة حديثة إرتقاء جديد، معان جديدة، إنسان مصرى قديم جديد متجدد هنا ينبثق التجديد من عمق التقليد ونرد إلى التقليد غناه و ثراءه ، فنستطيع أن نردد القول القديم "وأن نقوله مرة أخرى أول مرة".
يذكر أن هذا المقال كتبه إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان، وهو يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN