هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
هل يمكن لرجل الدولة أن يعول على القوة المسلحة وحدها أداة لبلوغ أهداف دولته في الخارج أو الداخل؟ لاحظوا أعزائي القراء أن تعبير رجل الدولة هنا ينصرف إلى كل من يصنعون سياسة الدولة، وليس فقط شخص الرئيس، سواء كان رئيسا للدولة أو للحكومة. كما أن المقصود بالسؤال هنا هو رجل السياسة الحصيف الرشيد والذى ليس مفتونا بالقوة الغاشمة تغنيه عن غيرها من الإعتبارات، والذى لا يسعى فقط لبقائه على أعلى مراتب السلطة، ولكنه يسترشد بغايات قومية تتجاوز شخصه. هناك وجهات نظر متعارضة تقدم إجابات على هذا السؤال. الزعيم الصيني الراحل والذى قاد نضال الشعب الصيني ضد الإحتلال الياباني وضد حكومة الكومنتانج الرجعية هو صاحب المقولة الشهيرة أن القوة تنبع من فوهة البندقية. وفي تسعينيات القرن الماضي جاهر المحافظون الجدد بأن الولايات المتحدة يجب أن تعتمد على القوة العسكرية وحدها لتكرس إنفرادها بالسيطرة على العالم، وذلك بالقضاء على أى مصدر لتهديد هذه المكانة سواء على الصعيد الإقليمى أو الصعيد الدولي. وقد إعتبروا أن إعلان الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس ريجان إمتلاكها القدرة على وقف ضربة مضادة سوفيتية على مبادرتها بشن حرب نووية هو الذى أدخل القطب المناوئ لها في سباق تسلح أفضى في النهاية إلى تنازلات جوهرية في مفاوضات وقف التسلح النووى ثم إلى تراجع إقتصادى أدى إلى تفككه ومعه الكتلة الإشتراكية التى كانت تخضع له. ومازال لفكر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة أنصار يعيبون على الرئيس أوباما عدوله عن أفكارهم بعد التجربة المهينة لإحتلال العراق.
***
لاشك أن إغراء التعويل على القوة المسلحة وحدها أداة للسياسة الخارجية أو الداخلية في حالات الصراع الدولي أو الداخلي هو إغراء لا يقاوم عندما يكون التفوق كاسحا لدى طرف. ولا يبدو أن الطرف الآخر يملك ما يمكنه من مقاومة هذا التفوق الكاسح. ومع ذلك فحتى في هذه الحالات ليس من المؤكد أن يكون إستخدام القوة المسلحة فعالا. فحتي فى حالة الطرف القوى، هناك قيود داخلية على استخدامه للقوة المسلحة، منها الرأى العام الذى يخشي تضاعف الخسائر، وبالإضافة إلى ذلك ليس التطرف في إستخدام القوة أمرا محمودا ، فسوف يتردد الطرف القوى كثيرا في استخدام كل ما لديه من سلاح. كان من الخبل أن تستخدم الولايات المتحدة سلاحها النووي في حربها ضد قوات جبهة التحرير الوطني في فيتنام ومعها حكومة فيتنام الشمالية. هناك طبعا القيد الأخلاقي الذى لا يمكن التهوين منه، ولكن هناك هدف الحرب ذاتها، ولم يكن يشمل القضاء على ملايين من الفيتناميين. ربما كان في تصور القادة السياسيين الأمريكيين أن تتحول فيتنام المهزومة إلى حليف لها في الصراع ضد حكومة الصين الشعبية أو ضد الإتحاد السوفيتي. ولاشك أن مصرع ملايين الفيتناميين في هجوم نووي لم يكن سيؤمن لها هذه النتيجة. ومن ناحية أخرى فالطرف الأضعف نسبيا لا يعدم أدوات القوة هو بدوره. تملك الولايات المتحدة تفوقا في أسلحتها التقليدية من مشاة محمولة جوا وطائرات مقاتلة ودبابات، ولكن الفيتناميين أبدعوا في إستخدامهم لأسلوب الحرب الصغيرة- المسماة خطأ بحرب العصابات- وأذاقوا كلا من فرنسا وبعدها الولايات المتحدة طعم الهزيمة المر ببراعتهم فيها.. وللأسف فإن الحجم المقبول من ضحايا الحرب متفاوت بين الطرفين. عندما تصل خسائر الطرف القوى إلى بضعة آلاف، فلن يكون ذلك مقبولا من جانب رأيه العام، ولكن رأينا حالات يقبل فيها الطرف الأضعف التضحية بمئات الآلاف من مواطنيه. ألم توصف حرب تحرير الجزائر بأنها حرب المليون شهيد؟
طبعا ليس الهدف من هذه المناقشة النظرية والتاريخية استعراض تاريخ استخدام القوة في العلاقات الدولية، ولكنه مجرد مفتتح لإستخلاص الدروس فيما يجرى من صراعات حادة في وطننا العربي وداخل دوله. يستخدم التحالف العربي الذى تقوده المملكة العربية السعودية تفوقه في السلاح الجوى في مواجهة قوات الحوثيين وأنصار الرئيس اليمنى السابق على عبد الله صالح، وقد أعلن أطراف هذا الصراع هدنة تنتهي يوم السبت، وليس من المؤكد لحظة كتابة هذه السطور أن تفضي الهدنة الهشة إلى مفاوضات تنتهي بتسوية سياسية. ولم تكن السعودية وحدها التى عولت على الحسم العسكرى إستنادا إلى تفوقها، ولكن الحوثيين أنفسهم ومعهم أنصارهم المحليون وإيران القوة الإقليمية التى تساندهم تصوروا أيضا أنه يمكنهم حكم اليمن وإقصاء حكومته الشرعية إستنادا إلى تفوق سلاحهم. ولا يبدو أن أيا من طرفي النزاع قد تخلى عن رغبته في حسم الصراع لصالحه. ولذلك فليس من المستبعد أن يتجدد القتال، والذى لم ينقطع تماما في الحقيقة خلال فترة الهدنة، وأن يعرف هذا الصراع مرحلة أكثر تدميرا دون أن تبدو له نهاية قريبة.
***
حالات الصراع الداخلي الأخرى في الوطن العربي لا تختلف عن ذلك. ربما تكون هناك أطراف تملك تفوقا عسكريا في مواجهة معارضة مسلحة أو غير مسلحة سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا أو حتى مصر، ولكن الطرف المتفوق عسكريا، حتي عندما يلجأ إلى حلفاء إقليميين مثل إيران وحزب الله في سوريا، وقطر وتركيا في ليبيا أو إقليميين ودوليين مثل إيران والولايات المتحدة في العراق، فإنه لا يقدر علي إنهاء الصراع لصالحه لأن الطرف الآخر لا يعدم الوسائل ليس فقط لتكلفته خسائر فادحة تهدد وجوده في أقاليم واسعة من البلاد كما هو الحال في سوريا وليبيا، ولكن لأن كل هذه الأطراف تعتبر أن معركتها مع خصمها هي معركة وجود، وليست نزاعا يستهدف تحسين شروط التعايش المشترك.
خطورة صراعات الوطن العربي الحالية هي تعريف أطرافها لها علي أنها صراعات وجود، معارك صفرية لا يمكن أن تنتهي على نحو مرض لأى من أطرافها إلا باجتثاث الطرف الآخر وإنهاء وجوده ليس ككيان سياسي، ولكن حتى كبشر على قيد الحياة، كما تذكرنا بذلك من يوم لآخر المجازر التى تنظمها داعش لخصومها السياسيين ولمن يختلفون مع ما تعتقد أنه الدين الصحيح، ولذلك يطول أمد هذه الصراعات لأن الحل المقبول لأطرافها مستحيل، ولأن أيا من هؤلاء الأطراف عاجز عن إنهاء الصراع إعتمادا على قوته المسلحة، ومع ذلك فكلهم مستغرقون في توهم أنه سيمكنهم الوصول إلى ذلك. ولذلك فالتطورات الأكثر إحتمالا لمسارها هو إستخدام كل طرف لكل ما يملك من قوة عسكرية، والتفنن في زيادة قدرتها التدميرية بحيث يلحق أكبر خسارة بخصمه أيا كان أثر ذلك على الإلتزام بقواعد النزاعات المسلحة أو النأى بالمدنيين عن نتائج هذه الصراعات أو الحفاظ على التراث الثقافي لهذه الشعوب. وإذا لم تفلح الإمكانيات الذاتية لهذه الأطراف في تعزيز قدرتها على مواصلة القتال، فهناك دائما الأطراف المستفيدة من هذه الصراعات لتدعيم مكانتها ألإقليمية أو الدولية أو حتي لإقتضاء ثمن مقابل تأييدها.
***
الصراعات المسلحة التى عرفتها أقاليم أخرى في قارات العالم بأسره إنتهت بتسويات سياسية لم يقض فيها طرف على الطرف الذى كان خصمه اللدود في حرب طالت أم قصرت، لأن أطرافها في أمريكا الوسطى وفي أنجولا وجنوب إفريقيا ويوغوسلافيا السابقة إما أدركوا عدم فعالية القوة المسلحة أو لأن قوى دولية أجبرتهم على قبول التسوية. الأطراف الإقليمية داخل وطننا العربي وعلى تخومه مستريحة تماما لهذه الحروب العربية العربية، والأطراف الدولية لاترى فيها خطرا وشيكا على مصالحها. ولذلك سيطول أمد هذه الحروب طالما لم يتخل أطرافها عن وهم الحسم العسكرى وطالما أنهم لا يتقبلون ضرورة العيش المشترك مع خصومهم ولكن شركائهم في الوطن. لقد نصح ماكيافيللي أميره بأن يسعي إلى الهيبة وأن يزرع الخوف من سطوته في نفوس أعدائه، ولذلك دعاه أن يتمثل بالأسد، ولكنه أسرع إلى تذكيره بأنه يجب أن يجمع المكر إلى جانب القوة فيتحلي بصفات الأسد والثعلب في آن واحد.
دعونا نأمل أن يظهر في أوطاننا قادة دول يجمعون بين إمتلاك القوة العسكرية والبراعة في استخدام فنون السياسة. وفنون السياسة تشمل ليس المكر وحده ولكن اكتساب الشرعية وتوسيع نطاق الرأى العام المساند وتضييق دائرة مؤيدى الخصوم. فمتى يظهر هؤلاء القادة؟