هذا المقال بقلم آمال قرامي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أثارت تصريحات الرئيس السابق المنصف المرزوقي في منتدى قطر استهجان عدد من السياسيين، والإعلاميين، والشخصيات الوطنية فضلا عن المبحرين في شبكات التفاعل الاجتماعي. فقد آثر المرزوقي أن يستهل كلمته بشكر حكّام قطر نيابة عن الشعب التونسي لوقوفهم بجانب تونس ودعمهم لها طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي (متناسيا هتاف الجماهير لا أمريكا لا قطر، تونس حرة حرة وقطر على بره...). ولم يكتف المرزوقي بذلك بل اعتبر قطر من قوى الخير التي ساهمت في بناء تونس الجديدة. وكعادته انتقد المرزوقي الأحزاب التي لم تقبل الثوريين السلميين الداعيين إلى دولة المواطنة، وعلى رأسها حزب نداء تونس، وذكّرها بما كان قد تنبّأ به من قبل من حدوث ثورة جديدة يتزعمها ثوريون غير سلميين ومن ثمّة 'سيأتي جيل ينصب المشانق'.
والواقع أنّها ليست المرّة الأولى التي يشتم فيها المرزوقي التونسيين الذين لم يقبلوا به على رأس إدارة شؤون البلاد، وليست المرّة الأولى التي "يصفّي" فيها المرزوقي حساباته مع خصومه الذين يعتبرهم ممثلي "النمط البرجوازي اللاوطني" من خارج البلاد. فكلّما زار المرزوقي قطر اغتنم الفرصة ليشتم إعلام العار، والقوى المضادة للثورة...وليس غريبا أن يشعر المرزوقي بارتياح في موطنه قطر فالرجل أفاد من خدمات قناة الجزيرة التي تطوّعت لقيادة حملته الانتخابية، ودعم حركة شعب المواطنين، كما أنّ المرزوقي أفاد من مركز الدراسات التابع للجزيرة فكتب بمقابل مادي مناسب لمقام مناضل حقوقي ورئيس دولة.
لقد اعتُبر المرزوقي في نظر منتقديه 'عميلا'، و'خائنا' للوطن، ومفرّطا في سيادة تونس بل ثمة من اعتبره متعاملا مع قوى الامبريالية وخدّام الصهيونية، ودعا إلى محاسبة الرجل الذي تستر عن الجمعيات الخيرية التي سعت إلى تدمير البلاد عبر تأسيس شبكات تسفير الشبان إلى سوريا، والترحيب بالدعاة المحفزين على الاحتقان الاجتماعي، والمروّجي لخطاب الكراهية والفتنة بين التونسيين. وفي هذا الصدد طالب محسن مرزوق الأمين العام الجديد لحزب النداء باتخاذ إجراءات ضدّ المرزوقي ودعا الدولة إلى محاسبته قائلا:"هذه التصريحات لا تليق برئيس دولة سابق، ويقوم بصبّ الغاز على النار في الجنوب ... وعلى الدولة أن تثبت للجميع أنها دولة وكل واحد يتجاوز حدوده يلزم نحاسبوه حتى لو كان رئيس دولة سابق".
أمّا أنصار المرزوقي، والمدافعون عن حراك شعب المواطنين، والذي ينظر إليه على أساس أنّه منقذ البلاد من الضلال السياسي، والزيغ النهضوي فإنّهم يعتبرون المرزوقي 'زعيم الوطن' وهو 'حرّ وشريف'، و'آخر الرجال المحترمين'، وصاحب السياسة المنحازة "للمستضعفين ومن لا صوت لهم"، و"صاحب المشروع التحرري الحقيقي"، القائم على مبدأ العيش معا، وهو أيضا الشوكة المنتصبة في وجه كل من العاملين على عودة حزب التجمّع بآلياته المعروفة. والمرزوقي ، في نظر محبّيه هو ممثّل" العائلة الديمقراطية الحقيقية"، وهو 'إنسان تقدمي حقيقي منحاز للإنسان المستضعف مهما كانت ايديولوجيته'، و المرزوقي هو 'مؤلف القلوب وغير استئصالي ونصير المستضعفين".
***
صورة المرزوقي تتشكّل في الداخل والخارج. فالحقوقيون في موريتانيا، والمغرب، والسودان، وغيرها من البلدان من الذين عرفوا الرجل في محطات سابقة في حياته يروون عنه حكايات وقصص، ويقارنون خطاب الرجل قبل الثورة وبعد اعتلائه سدّة الحكم، ويعبّرون عن خيبة أملهم، ويتساءلون لم فرّط الرجل في ماضيه النضالي، وأضحى متناقضا متستّرا عن التجاوزات، غاضا الطرف عن أشكال من الفساد؟
من الثابت أنّ المرزوقي يساهم هو أيضا في تشكيل صورته من خلال اختيار هيئته، ومفردات خطابه، وسلوكه وخياراته ...وهو يريد من الناس أن يروا فيه ما يريد هو أن يروا. وبين الأسطورة والشيطنة مسافة تسمح بالوقوف عند طريقة اشتغال نسق التمثلات، ومعرفة الأسباب والدواعي التي تجعل الواحد يهيم شوقا فيمدح الزعيم الثوري، ويسانده بكلّ ما أوتي من قوّة حتى وإن اقتضى الأمر غضّ الطرف عن العيوب والمساوئ ، والزلاّت مادام هذا الزعيم قد سمح لمن كانوا وراء الستارة أن يبرزوا وأن يصبحوا في موقع الفاعلين، والمؤثرين في الجماهير. أمّا الذين يمارسون الشيطنة فإنّهم يحرصون على إخفاء ما يزعج في خطاب المرزوقي، وقراراته ،وتحركاته ،والتركيز فقط على العيوب. وبين هؤلاء وهؤلاء يغدو المرزوقي في منطقة بَينية معلّقا بين السماء والأرض، بين النزاهة، والمراوغة، بين الدهاء، والرعونة، بين التبصّر والعمى.