إلى الحكام، لكم أيضا الديمقراطية أفضل!

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
إلى الحكام، لكم أيضا الديمقراطية أفضل!
Credit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

كاتب هذا المقال هو عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو يعبر عن رأيه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN

(CNN)-- لا يدرك حكام النظم الديكتاتورية والسلطوية أن الديمقراطية التي لا يريدونها ويرفضون آلياتها وإجراءاتها تمكن نظرائهم من حكام البلدان التي استقرت بها سيادة القانون وتوطن فيها تداول السلطة عبر الاختيار الحر للمواطنات والمواطنين من "الممارسة الآمنة" لمهام منصبهم، كما توفر لهم "الخروج الآمن" بعيدا عنه إن حين يتعين عليهم الرحيل الاعتيادي (لحضور حدود دستورية وقانونية قصوى لفترات الحكم الممكنة، كالمدتين الرئاسيتين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الكثير من الجمهوريات الرئاسية الملتزمة بالديمقراطية) أو حال الخسارة في صناديق الانتخابات (البرلمانية أو الرئاسية) أو في لحظات الاستثناء / الأزمة / التعثر / الطلب الشعبي على التغيير.

بل أن الآليات والإجراءات الديمقراطية تضمن للحكام بعد "الخروج" حماية حقوقهم وحرياتهم الأساسية، ولها أن تخفف من وطأة العقاب الذي قد ينزل بهم عندما يتم تعقبهم قضائيا وتثبت عليهم الأخطاء ويعزلون بسبب الإخلال بمسئولياتهم وواجباتهم المنصوص عليها دستوريا وقانونيا أو بسبب التورط في العصف بسيادة القانون أو بسبب الفساد وسوء استغلال المنصب.

بعبارة بديلة، ليست الديمقراطية وحسب أكثر أمنا وإنسانية لجهة المواطن الذي تصون حقوقه وحرياته، وتمكنه من التعبير الحر عن الرأي ومن ممارسة الاختيار الحر، وتكفل له المشاركة في إدارة الشأن العام عبر الآليات والإجراءات الانتخابية وعبر إتاحة وتداول الحقائق والمعلومات. فالديمقراطية أيضا هي النظام الأكثر أمنا وإنسانية فيما خص التعامل مع الحكام، والأعظم قدرة على حماية حقوقهم وحرياتهم بعد "الخروج" من المنصب وعلى إدارة تحديات لحظات الاستثناء / الأزمة / التعثر / الطلب الشعبي على التغيير دون دفع "الحكام السابقين" إلى مآلات مأساوية.

خطأ فادح أن يظن الحكام في النظم الديكتاتورية والسلطوية أن سيطرتهم الأحادية على مؤسسات وأجهزة الدولة، وصناعة تحالفات "الاستتباع في مقابل الحماية والعوائد" مع النخب الاقتصادية والمالية والثقافية والحفاظ عليها، وأدوات توظيف الظلم والقمع والتعقب ﻹخضاع الناس وفرض الخوف عليهم ومن ثم تهجيرهم من المجال العام أو إنزال العقاب بهم حال عدم الامتثال ستضمن لهم "البقاء الآمن" في مناصبهم أو ستحميهم بعد "الخروج" بعيدا عنه أو ستحمي ذويهم ومحاسيبهم والشبكات ومراكز القوة المرتبطة بتحالفاتهم داخل المؤسسات والأجهزة ومع النخب.

فمن جهة أولى، يدلل التاريخ المعلوم للبشرية على أن العدد الأكبر من المآلات المأساوية للحكام - الاغتيال، الإعدام، السحل، الانتحار، العقوبات السالبة للحرية، الإقامة الجبرية، النفي إلى الخارج، الهروب، وغيرها – يرتبط: 1) بصراعات "الإلغاء والتصفية" التي دوما ما تدور رحاها داخل أروقة الحكم وبين مراكز القوة والنخب في النظم الديكتاتورية والسلطوية، 2) ويحدث أحيانا بفعل الهزائم العسكرية والتداعيات المدمرة للتورط في متواليات الحروب والعنف والغزو والغزو العكسي، 3) ويتصل أيضا بالهبات والانتفاضات والثورات الشعبية على الاستبداد والقمع والفساد والمطالبة بالتغيير والتي تواجه حين التمكن من إزاحة الحكام خطر الانزلاق إلى غياهب الانتقام والعقاب الجماعي والابتعاد عن عدالة المساءلة والمحاسبة المنضبطة بالقانون "للحكام السابقين" وقد تتورط به.

ومن جهة ثانية، تشهد وقائع الربع الأخير في القرن العشرين وتحولات بدايات الألفية الجديدة على أن عمر النظم الديكتاتورية والسلطوية يتجه إلى الانخفاض، وعلى أن التوقعات الذاهبة باتجاه بقائها لفترات زمنية طويلة تفتقد المصداقية. فبينما بقت ديكتاتورية القياصرة في روسيا لمئات السنين، لم تصمد ديكتاتورية الاتحاد السوفييتي سوى لسبعة عقود ونيف، وأغلب الظن أن محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بناء سلطوية جديدة اليوم لن يكتب لها العمر الطويل. أما في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية وفي بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان الآسيوية التي تتعثر بها التحولات الديمقراطية وتزج بها إلى تقلبات منتظمة بين تطبيق لبعض الآليات والإجراءات الديمقراطية وبين الانقلاب عليها، فإن مساعي توظيف ذاك التعثر وتلك التقلبات لبناء منظومات حكم / سلطة غير ديمقراطية تعجز عن توفير مقومات البقاء الزمني طويل المدى ولا ترتب من نتائج سوى إدخال دولها ومجتمعاتها ومواطنيها في أتون أزمات ممتدة ومفتوحة - والنماذج الأوضح هنا هي أوكرانيا والمجر ورومانيا في أوروبا، وفنزويلا وبيرو في أمريكا اللاتينية، وباكستان وكمبوديا في آسيا.

غادرت بشريتنا قرون "حكم الحديد والنار" الممتد دون رجعة، وودعت عقود الديكتاتور والحزب الواحد الأبدي والحاكم الفرد مدى الحياة والملكيات المطلقة دون ندم، والاستثناءات المؤثرة الحاضرة في الصين وفي دول "الربيع العربي" وفي كوريا الشمالية تنتج بقائها إما مقومات يستحيل اجتماعها معا في بلد آخر غير الصين أو ثروات طبيعية ترتب تراكما مذهلا في الثروة تتصدره المملكة العربية السعودية وبعض بلدان مجلس التعاون الخليجي الأخرى أو ترتبها كما في كوريا الشمالية وضعية من البدائية والعنف ومن الانعزال عن العالم المعاصر انقضى أوان استنساخها بعيدا عن بيونج يانج، ويجدر بالراغبين اليوم في التأسيس لنظم ديكتاتورية وسلطوية جديدة الوعي بمجموعة الحقائق هذه وإدراك أن محاولاتهم لا سبيل لا لاستقرارها ولا لامتدادها الزمني مهما تحملت الدول والمجتمعات والشعوب من تضحيات وأكلاف مصدرها الدائم يتمثل في متواليات الاستبداد والقمع والعنف والفساد وسوء الأداء العام وانهيار القطاع الخاص وتدني مبادرات الناس الفردية - وجميع متواليات السلب هذه ذات صلة عضوية بغياب الديمقراطية وقيمها ومبادئها.

ومن جهة ثالثة وفي المقابل، تمكن النظم التي استقرت طبيعتها الديمقراطية وتماسكت آلياتها وإجراءاتها وكذلك النظم التي تدار دون كثير تعثرات أو تقلبات تحولاتها من الديكتاتورية والسلطوية باتجاه سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات والمشاركة الشعبية الحكام "المنتخبين" من الممارسة الآمنة لمهام منصبهم ومن الخروج الآمن بعد انتهاء خدمتهم.

يخبرنا تاريخ البشرية المعلوم وتنبئنا الوقائع المعاصرة، ومع حضور استثناءات وعلى الرغم من تمترس حكام النظم الديكتاتورية والسلطوية في خانات الرفض والمنازعة، أن الديمقراطيات تهيئ لحكامها فرصا فعلية للإنجاز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وللإصلاح المؤسسي، بل وتضمن لهم وجود مصدات متنوعة عند الأزمات كما تحول بينهم وبين تحمل مسئولية الإخفاق بمفردهم لكونها تفعل مبادئ الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة بشأن كافة مستويات المؤسسات والأجهزة العامة - والإشارة للفرص هنا تعني الاحتمالية، وليس صك النجاح المسبق أو ضمانات الإنجاز القادم بلا ريب، هي احتمالية يجيد بعض حكام الديمقراطيات استغلالها ويفسدها آخرون.

كذلك يخبرنا تاريخ البشرية المعلوم وتنبئنا الوقائع المعاصرة أن أغلبية حكام الديمقراطيات تظل في "مأمن" من المآلات المأساوية التي تتكرر بانتظام في النظم الديكتاتورية والسلطوية. فالمواطن في الديمقراطيات يعاقب الرئيس الفاشل أو رئيس الوزراء الفاشل بالإسقاط في الانتخابات التالية ثم يدعه يذهب إلى حال سبيله، أو قد يقسو عليه حال تراكم الفشل والإخفاقات بحراك شعبي معارض أثناء فترة حكمه ذات المشروعية الانتخابية يطالب بانتخابات مبكرة ثم يرسله بعيدا عن الحياة السياسية ويأتي إلى سدة الحكم بمنافس له.

وحين يتضح قبل أو بعد "الخروج" تورط الرئيس السابق أو رئيس الوزراء الذي خسر الانتخابات في إخلال بمسئوليات وواجبات منصبه أو في عصف بسيادة القانون أو في فساد وسوء استغلال المنصب العام، فإن الرأي العام سيطالب بالمساءلة والمحاسبة القانونية المنضبطة والناجزة وبإخبار مجتمع المواطنات والمواطنين بنتائج "المحاسبة" بشفافية ثم يدع أيضا "السابقين" لحياتهم الخاصة دون انتقام أو تشفي أو تشويه - في فرنسا، يحاسب قضائيا الرئيس الأسبق شيراك والرئيس السابق ساركوزي في سياق اتهامات بالفساد. وعندما يثبت على الرئيس أو رئيس الوزراء الإخلال بمقتضيات المنصب والمهام والدور أثناء فترة حكمه، فمصيره قد يكون العزل القانوني - كما حدث لريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق في 1974، وكما تهدد ذات المصير بيل كلينتون في تسعينيات القرن العشرين، وقد يتعرض لمساءلة ومحاسبة قضائية تنتهي بأن توقع عليه عقوبة سالبة للحرية - كما حدث لنيكسون أيضا، وقد يعفو خلفه عنه في سياق لحظة تسامح شعبي عام بعد أن أبعد الرئيس الفاسد أو رئيس الوزراء الفاسد عن منصبه ويحول بينه وبين تنفيذ العقوبة السالبة للحرية - مجددا مصير نيكسون الذى قرر خلفه جيرالد فورد العفو عنه، وغير ذلك من الأمثلة والحالات الكثير في عمق التاريخ وعلى امتداد خريطة العالم.

إلى حكام النظم الديكتاتورية والسلطوية، ثقوا أن الديمقراطية هي النظام الأفضل، لكم أيضا ولمآلاتكم الشخصية.

كاتب هذا المقال هو عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو يعبر عن رأيه ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.