رأي.. "تضامنا مع المودعين عن بعد!"

الشرق الأوسط
نشر
8 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
رأي.. "تضامنا مع المودعين عن بعد!"
Credit: Justin Sullivan/Getty Images

هذا المقال بقلم  عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

خلال سنوات الدراسة والعمل في ألمانيا بين 1993 و2002، كان لي بعض الأصدقاء العراقيين والإيرانيين الذين فرض عليهم طغيان صدام حسين وتصفيته المستمرة لمعارضيه أو فرض عليهم استبداد الجمهورية الإسلامية وانتهاكاتها المتكررة للحقوق وللحريات الفرار من الوطن والبحث لذويهم ولذواتهم عن ملاذات بعيدة آمنة، وجاءت بهم اختياراتهم أو ساقتهم أقدارهم إلى برلين ومدن ألمانية أخرى.

لم يكن أصدقائي من العراقيين والإيرانيين كغيرهم ممن عرفت من العرب أو الشرق أوسطيين الآخرين المقيمين في ألمانيا، واختلفوا كثيرا عن الجاليات التركية والفلسطينية واللبنانية والمصرية. فالأتراك قدموا منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين بدوافع العمل والادخار، وفرت الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين إما من مصائر احتلال الوطن والعنصرية الإسرائيلية والاستيطان الإجرامي أو من بؤس حياة مخيمات اللجوء في الجوار العربي لفلسطين. أما الأسر اللبنانية فبحثت في ألمانيا عن نجاة من جحيم الحرب الأهلية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين واستطاعت كعادتها توظيف مهاراتها الجماعية لوضع مواطئ قدم اقتصادية وتجارية ناجحة في الأماكن التي حلت بها، بينما استقرت الجالية المصرية محدودة العدد في ألمانيا لدوافع العمل وانخرطت منها أقلية صغيرة في مراحل التعليم الجامعي وتواجد نفر قليل على الهوامش ممن ساقتهم السياسة والقناعات اليسارية إلى ألمانيا الشرقية السابقة (جمهورية ألمانيا الديمقراطية 1949-1990) ثم ورثتهم ألمانيا الموحدة في 1990 وأورثتهم هي نظامها الرأسمالي (الذي كان قد ترسخ في ألمانيا الغربية السابقة 1949-1990).

في مواقع أخرى تواجد أصدقائي من العراقيين والإيرانيين؛ فقد كانوا جميعا من حملة الشهادات الجامعية العليا ومن أصحاب تخصصات علمية مكنتهم من الالتحاق بوظائف مرموقة، ونجحوا في الاندماج في الدوائر الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم، ولم يقبلوا أبدا الحياة على الهوامش - ومازالت ذاكرتي تختزن الكثير من لحظات النبل الأخلاقي والود الإنساني الخالص للصديق العراقي الدكتور محمد السعدي طبيب الأسنان اللامع في برلين، والصديق الإيراني الدكتور علي شيرازي صاحب المؤلفات الأكاديمية الأهم عن الدستور والقانون والسياسة قبل الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية في 1979 وبعدهما والذي تشرفت بالتزامل معه في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة برلين.

فر الأصدقاء العراقيون والإيرانيون من أوطانهم بعد أن أحرقتها نيران الديكتاتورية والطغيان والاستبداد والتطرف، فروا بمفردهم في مقتبل حياتهم المهنية والعلمية أو مع أسرهم تاركين وراءهم أهل وذكريات وبقايا حياة لم يرد لهم استكمالها. فروا، بعضهم عبر دروب خطرة ووعرة، وحيل بينهم وبين العودة إلى أوطانهم بعد أن صنفوا كهاربين أو معارضين أو زيفا كمتآمرين على "المصالح الوطنية"، وأبلغوا عبر الأهل أو الأصدقاء بنزع ملكياتهم الخاصة وبطردهم من وظائفهم وبالبطش الذي ينتظرهم إن هم فكروا في الاقتراب.

وعلى الرغم من ذلك، لم يقترب من عرفت من الأصدقاء العراقيين والإيرانيين من مجموعات وحركات معارضة نظام صدام حسين والجمهورية الإسلامية التي كانت تستوطن الخارج، وكانت لهم تحفظاتهم على تشوهات المعارضة هذه التي أحدثها بها إما الاستتباع الكلي أو الجزئي للمال وللمصالح الأجنبية أو أنتجتها هيمنة الأفكار الرجعية على قياداتها وكوادرها - كطائفية ومذهبية وطغيان النزوع الانتقامي على الكثير من معارضي نظام صدام حسين في الأوساط الشيعية - أو سببها انتفاء الواقعية عن مقولاتها ونزوعها المتصاعد إلى العنف - كوضعية حركة مجاهدي خلق اﻹيرانية. غير أن أصدقائي العراقيين والإيرانيين لم يتنازلوا أبدا عن حقهم في التعبير الحر عن الرأي، وفي النقد العلني للأوضاع الكارثية في أوطانهم، وفي الدعوة إلى التغيير السلمي باتجاه الحربة والديمقراطية إن بالمشاركة في تظاهرات وتجمعات سلمية تندد بالاستبداد - كما كان يفعل محمد السعدي دوما - أو بالكتابة الأكاديمية والمداخلات الإعلامية - كما تميز علي شيرازي.

بالقرب من الأصدقاء العراقيين والإيرانيين تعلمت كيف يصبح التفوق المهني والعلمي طوق النجاة من عذاب الحياة في المنفى، وسبيل للاندماج في المجتمع الجديد. معهم أدركت كيف تتحول متابعة أوضاع الأوطان عن بعد إلى عمل يومي يضني ذهنيا ونفسيا، وكيف يمكن المزج بين توجيه النقد الحر للاستبداد ومواصلة الدعوة السلمية للتغيير باتجاه ديمقراطي وبين الامتناع بصرامة ونزاهة عن التورط في الاستتباع لمال أو مصالح خارجية أو في تأييد معارضات رجعية وعنيفة – لم يكن لها في العراق غير أن تدمر المواطن والمجتمع والدولة الوطنية وتخضع ثلاثتهم لطائفيتها ومذهبيتها ونزوعها الإجرامي للانتقام بعد أن مكنهم من ذلك في 2003 الغزو الأمريكي والتغول الذي أعقبه للنفوذ الإيراني.

معهم شاهدت سطوة الألم والحزن في ملامح الوجوه وطالعت قسوة مشاعر الوحدة والاكتئاب والرغبة في العزلة عندما تتكالب على الجسد وتستلب لغته، حين كانت المفجعات الشخصية تساق إليهم حاملة نبأ رحيل الأم أو الأب أو الأخت أو الأخ أو صديق من المقربين وهم في منافيهم غير قادرين إلا على الوداع عن بعد وبينهم وبين العودة إلى الأوطان واقع القمع وخطر التعقب وانتهاكات الحقوق والحريات.

شاهدت، وأيقنت أن واجبي الأخلاقي والإنساني الوحيد في مثل هذه اللحظات هو التعاطف، والتضامن، والتعبير عن احترام الألم والحزن، والدعاء بالرحمة والصبر والسلوان. أيقنت أن ذلك هو أيضا واجبي في لحظات مشابهة كثيرا ما فرضت آلامها على محيطي الشخصي والمهني أو يتواصل اليوم اصطدامي بها كمتابع لشؤون الناس؛ لحظات عجز فقراء الجاليات المصرية في الشرق والغرب عن تدبير المال اللازم للعودة إلى أوطانهم حال رحيل الأهل والأصدقاء، أوضاع المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يرغبون في مغادرة ملاذاتهم "الآمنة" قبل أن تنضبط قانونيا إقامتهم وتستقر نسبيا حياتهم، أحوال الذين خرجوا من ديارهم وبلادهم بسبب خطر القمع والتعقب والانتهاكات وبسبب السلطوية التي تورثهم الخوف على الغد وتشعرهم بغربة شديدة عن الوطن الذي نشدوه ولم يتخلوا عن تمنيه واقعا جديدا وجميلا.

إلى الصديق باسم يوسف بعد رحيل والده رحمه الله، وإلى الكثيرين الآخرين من غير المعلومين للرأي العام الذين، ولأسباب يتداخل بها السياسي والاجتماعي مع المالي والقانوني، لا يقدرون إلا على "الوداع عن بعد"، إليكم جميعا خالص التعاطف والتضامن واحترام الألم والحزن - تماما كما أتعاطف وأتضامن مع من يمرون بلحظات الوداع القاسية للغاية التي يفرضها الإجرام الإرهابي على ذوي الشهداء وتفرضها الانتهاكات على ذوي الضحايا ومن ثم على الوطن ككل.