هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
ذكرت صحيفة المصرى اليوم صباح الجمعة الماضى أن قرارا صدر بحظر النشر عن مشروع العاصمة الجديدة، وجاء ذلك بعد أن نشرت الصحف قبلها بيومين أن الطرف الإماراتي قد انسحب من المشروع وأنه لم يمكن الوصول إلى اتفاق معه لعدة أسباب منها، وفقا لرواية هذه الصحف، إعتراضه على النسبة العالية، من وجهة نظره، التى ستئول للحكومة المصرية في رأس مال الشركة التى ستقوم بتنفيذ المشروع، وذكرت الصحف أيضا أن الحكومة المصرية لم تقبل أن يعول الطرف الإماراتي في تمويل المشروع علي قروض يحصل عليها من المصارف المصرية. وأيا كانت الحقيقة بالنسبة لهذه التقارير، فمن المؤكد أن هذا المشروع تعترضه حتي الآن عقبات كثيرة. ومهما كان مستقبله، فإنه يثير عددا من الملاحظات الهامة التى أتمني أن يأخذها صانع القرار عند تحديد المصير النهائي له.
***
الملاحظة الأولي والأهم تتعلق بكيفية صنع القرار في هذا المشروع. التحول إلى عاصمة جديدة وصفت بأنها سيكون فيها مقرا للحكومة والبرلمان والسفارات الأجنبية، وهى بهذه المؤسسات لا يمكن أن تكون عاصمة إدارية بل هى عاصمة سياسية بكل معنى الكلمة، قرار بهذه الخطورة لا يمكن أن يتخذ في الغرف المغلقة، وأن تحيط به السرية، وأن ينفرد به شخص واحد أو حتي مجموعة صغيرة من الأشخاص في غياب أهم مؤسسات الدولة. صحيح ليس لدينا مجلس نيابي حتى الآن، ولكن هناك مجلس وزراء. ومنذ ظهرت بوادرهذه الفكرة وأنا أتابع كل ما ينشر في الصحف عن القضايا التى يناقشها مجلس الوزراء، ولم أقرأ لا قبل الإعلان الرسمي عن هذا المشروع في المؤتمر الإقتصادى ولا بعده أن مجلس الوزراء قد ناقش هذا الموضوع، ولم أقرا بين ما ذكرته الصحف عن الموازنة الجديدة أنه جرى اعتماد مبالغ في ميزانية الدولة لتنفيذ هذا المشروع. ربما يرد البعض بأن مجلس الوزراء ربما ناقش هذه الفكرة ولم يصرح بالنشر عنها، لو صح ذلك فسأحمل مجلس الوزراء مسئولية عدم إعلام المواطنين بالموضوعات الهامة التي يناقشها وعدم الشفافية. ونظرا لأن هذا الأمر لم يعد سرا من الأسرار، فلا يمكن التحجج باعتبارات الأمن القومي كتبرير لعدم إعلام الرأى العام بهذه الفكرة، والإصرار على إعلام المواطنين بهذا الأمر ليس تلبية لمشاعر الفضول لدى المواطنين، ولكن لأن أى إنفاق على هذا المشروع سوف يأتى من الموارد التى يتيحها المواطنون للحكومة سواء في صورة ضرائب، أو إيرادات من مرافق أو خدمات عامة هي ملك للشعب، والحكومة مجرد نائب عنه في التصرف في حصيلتها منها، وفي وجود مجلس نيابي عليها أن تقدم تقريرا بما فعلته فيها، وغياب هذا المجلس النيابي بسبب مماطلة الحكومة في ترتيب إنتخاباته سواء بسبب إفتقاد الإرادة السياسية أو عدم كفاءتها في صنع قوانين خالية من العوار الدستورى، لا يعفيها من مسئوليتها في أن توضح للرأى العام ماذا تفعله بأمواله. وظني أن الحكومة لم تعرض هذا الأمر على الرأى العام لسبب بسيط هو أنها لم تستشر فيه. والوحيد بين وزرائها الذى يتحدث عنه ويتحمس له هو فقط وزير الإسكان. وعلى خطورة هذا المشروع لم نسمع ولم نقرأ لأى من الوزراء الآخرين حديثا عنه باستثناء كلمات قليلة من رئيس الوزراء بعد الإعلان الفعلي عن المشروع في المؤتمر الإقتصادى بشرم الشيخ، يبارك فيه المشروع، ولكنه لم يذكر إطلاقا أن هذا المشروع قد مر على الحكومة قبل الإعلان عنه.
هذه قضية خطيرة لا ينبغى أن تمر علينا وأن نتركها تتكرر. كيف لأمر بهذه الأهمية أن يجرى تقريره دون أن يكون أولا موضع دراسة كافية وواسعة داخل مؤسسات الدولة، ودون أن يطرح للنقاش الواسع على الرأى العام، ودون أن يدلي الخبراء المتخصصون رأيهم فيه، ودون أن تتحدد طبيعته وأهدافه وكيفية تنفيذه. هذه مسائل لا ينفرد بها عدد محدود ممن يحيطون بالرئيس لأن الذى يتحمل أخطاء الحكومة هم المواطنون في الحاضر والمستقبل، ولأن الخبراء المحيطين بالرئيس ليسوا بالضرورة هم المؤهلون للحكم علي كافة المسائل. وعندما عرف الرأى العام بهذا المشروع لم نجد من بين المتخصصين في جوانب هذا المشروع المختلفة من يقدم دفاعا مقنعا عنه.
***
والملاحظة الثانية هي طبيعة هذا المشروع. لقد أدرك من عليهم بحكم وظائفهم أن يقدموا هذا المشروع للرأى العام أن القرار بشأنه لم يتخذ على النحو السليم، ولذلك راحوا يقللون من شأن المشروع، فهو مجرد مركز إدارى ومالي، وتنفيذه سيستغرق عقودا طويلة، والقصد منه مجرد خدمة الشركات الكبرى التى ستأتي لتنفيذ مشروع إقليم قناة السويس، ونظرا لأنه لا توجد خدمات مناسبة لهم في منطقة القناة كما يقولون، فقد تم إختيار بقعة بالقرب من مدينة القاهرة الجديدة لتوفير هذه الخدمات الإدارية والمالية لهم، وكأنه من المستحيل مع إنفاق مليارات الدولارات علي المشروعات الكبرى الموعودة في إقليم قناة السويس أن نقيم المركز الإدارى والمالي هناك. ولا أظن أن هناك أى صعوبة في العثور على المكان المناسب لهذا المركز الإدارى والمالي في الصحراء الواسعة التى تحيط بإقليم قناة السويس جنوبا ووسطا وشمالا وغربا وشرقا. وإذا كان الهدف من هذا المشروع هو تخفيف الضغط على القاهرة والحد من مركزيتها المعطلة، فسوف يكون الأولى هو إقامة هذا المشروع بعيدا عن القاهرة وبالقرب من هذه المشروعات التنموية الطموحة.
والطريف في هذا الأمر أنه بعد إعلان أحد كبار المسئولين في وزارة الإسكان أن هذا المشروع لا يعدو كونه مجرد مركز مالى وإدارى لخدمة إقليم قناة السويس فإن صحيفة الأهرام طالعتنا في اليوم التالي لتصريحاته، أى في 15 يونيو 2015 وعلى صفحاتها الأولي، بأن الرئيس قد إجتمع مع وزير الإسكان وعدد من كبار قادة القوات المسلحة المسئولين عن هيئتها الهندسية وذلك للتخطيط "للعاصمة الجديدة" وشق الطرق إليها. المسألة ليست مجرد مركز إدارى ومالى ولكنها عاصمة جديدة يضعها الرئيس على قمة أولوياته.
***
وبصرف النظر عن إقامة عاصمة جديدة تخفيفا عن الضغوط التى تعاني منها مدينة القاهرة، وهذه هى الملاحظة الثالثة، وهى فكرة تستحق النقاش والنقاش المتعمق علي أوسع نطاق ممكن وليس بين الخبراء وحدهم، والذين لا يجب إطلاقا أن يقتصروا على المعماريين، ولكن لابد أن يشترك في هذا النقاش أساتذة الإقتصاد والسياسة والإجتماع والإدارة العامة والشئون الإستراتيجية وغيرهم بل وعموم المواطنين قبل الإستقرار على قرار يحظي بتوافق، فإن السؤال الهام الثالث هو موقع هذه الفكرة من أولوياتنا في المرحلة الراهنة. لم يوافق الرئيس بعد علي موازنة الدولة قبل العام المالي الجدبد الذى سيبدأ بعد أيام من نشر هذا المقال، وتكافح الحكومة من أجل خفض حجم العجز والنزول به إلى أقل من 10% من الناتج المحلي الإجمالى، وهى مهمة عسيرة للغاية لأن تحقيقها يقتضي خفضا في الإنفاق العام وتعبئة لمزيد من الإيرادات، وهو ما يتحمله المواطنون في صورة رفع أسعار بعض السلع وما يؤدى إليه ذلك من إرتفاع عام في مستوى الأسعار، وعلينا أن تعتمد على مواردنا الذاتية مع توقف دول الخليج عن تقديم مساعدات إضافية لمصر، ونحن نشكرها بالفعل علي ما قدمت. يثور السؤال هل في ظل شح الموارد وتدني الخدمات العامة من مياه لا تكفي للشرب أو للرى ومن مدارس مكتظة بالتلاميذ وتعليم متدهور وخدمات صحية غير موجودة تقريبا وسكك حديدية لا تليق بالبشر، هل في هذه الظروف يكون توجيه مليارات الدولارات لبناء عاصمة جديدة هو أولويتنا الأولى؟ وماهي الخواطر التي دارت في أذهان أعضاء الوفود التى حضرت المؤتمر الإقتصادى في شرم الشيخ والذين دعوا ليساعدونا على الوفاء بحاجاتنا الأساسية عندما وجدوا حكامنا مشغولين وفرحين بتوقيع إتفاق إقامة عاصمة جديدة.؟ هل كان ذلك مشهدا يوحى بجديتنا في مواجهة قضايانا العاجلة والتخطيط المستنير لمستقبلنا.؟
لن أدخل في تفاصيل هذا المشروع، ولكن أتمني أن تكون الصعاب التى تواجهه دافعا لكي يعيد كبار المسئولين في بلدنا نظرهم فيه، بل وأن يضعوه على الرف وأن يحلوا محله ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.