أشفق على الفوج الأخير من السفراء المصريين الذين تقرر ترشيحهم للعمل فى مواقع مهمة فى الخارج.
****
أشفق عليهم وعلى دبلوماسيين غيرهم من مختلف الجنسيات. كلهم معرضون ليوم يتناقل فيه الانترنت توقيعاتهم على مذكرات ورسائل مرسلة منهم إلى حكوماتهم فى شأن ظنوا أنهم أحاطوه بأستار وابتكارات شفرية تحميه من عيون وعبث وتلاعب أطراف ثالثة. معرضون ليوم أشد وطأة من يوم وجدوا فيه جميع رسائلهم الشخصية المنقولة بالبريد الإلكترونى وغيره من رسائل الاتصال في أيدي أغراب يقرأونها وينسخونها ويوزعونها أو يحتفظون بها إلى يوم حساب.
مرت أيام لن تعود. كان السفير يكتب مذكرة ليرفعها إلى وكيل وزارة خارجيته، وهو واثق أن المطلعين عليها لن يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين وبخاصة إذا تضمنت ما يمكن أن يثير فضول أجهزة أخرى غير وزارة الخارجية.
أستطيع، وإن بصعوبة ، أن أتماهى مع سفير هذه الأيام الذى يكتب مذكرة يعرف مسبقا أن قراءها قد يتجاوز عددهم الألف وربما المليون. أظن، بل لعلى واثق من ، أن هذا السفير أو المبعوث الدبلوماسي الكبير، يقرأ مرتين أو ثلاث مرات كل سطر سطره، وربما كل كلمة قبل أن يصدر أمره بتسليمها إلى الانترنت. المؤكد أن قراء هذا السفير صاروا بفضل تسريبات ويكيليكس أكثر عددا وتنوعا من قراء كتاب وأدباء عمت شهرتهم الآفاق، المؤكد أيضا والجديد في الوقت نفسه أن مذكرات ورسائل هذا السفير صارت تترجم إلى لغات عديدة وتحظي بتعليقات مهمة وتؤثر بشكل مباشر في صناع السياسة والرأي العام في دول كثيرة . كان حلم أي سفير أن يؤثر ولو قليلا في فكر وقرار رئيسه المباشر، هو الآن يؤثر بدون نية أو قصد في فكر وقرارات رؤساء آخرين ، وفي قطاعات رأي عام لم يفكر أنه سيصل اليها في أي يوم وتحت أي ظرف.
***
هذه السفيرة أو السفير الذى أشفقت عليه حين علمت أنه يتحرك من مكان إلى مكان في حراسة مشددة، لا يزور ولا يزار إلا بعلم الأمن، أمنه الشخصي والأمن الوطني وأمن الدولة المضيفة. ينام ويستيقظ والكاميرات المسلطة عليه لا تنام. ورد في رواية أحدهم عن فترة عمله في عاصمة عربية أنه اكتشف وجود كاميرا في حمام جناحه بالفندق. أضاف ساخرا أنه كان يقضى ساعات كل يوم وهو يحاول منع الاتصال المباشر بين جسمه وعدسة الكاميرا قبل أن يقرر في النهاية نسيان الأمر برمته والعودة الى ممارسة هواية الغناء الأوبرالي أثناء استحمامه غير عابئ بالصورة او بمن يصور وما يصور .
ليس جديدا في عالم الدبلوماسية النقص في «خصوصية» الدبلوماسي وافتقاره إلى ممارسة الحياة بحرية مناسبة، الجديد هو الفقدان الكامل للخصوصية والحرية بالإضافة إلى القيود الذاتية التي صار يفرضها التوقع المستمر لتسرب ما يكتبه. لم يعد الدبلوماسي آمنا على سرية المعلومات التي يتحصل عليها، ولم يعد واثقا من أن ما يكتبه أو يوصى به اليوم قد يعود عليه بعد سنوات طويلة أو قصيرة بالضرر البالغ أو بسمعة جرى تشويهها..
***
ولكني أشفق أيضا على الدبلوماسي ، والمصري تحديدا، منذ أن أضيفت إلى مهامه مهمة جديدة ، صعبة وسخيفة وثقيلة. الدبلوماسي المصري كدبلوماسيين من دول عديدة مكلف الآن بأن يقضي معظم وقته ووقت زملائه في السفارة يتابع الإرهاب بشتى أنواعه وألوانه ومصادره، ويدافع عن حكومة «بلاده» ضد اتهامات باستخدام القمع والعنف ضد خصومها. واجبه ، كما نعرف وكما تعلمنا وكما علمنا، أن ينفذ ما يصدر إليه من تعليمات بدون مناقشة، فإن تصادف وكان للدبلوماسي رأى مخالف للتعليمات فليكتمه وينفذ ثم يعترض همسا إن شاء أن يعترض. أما إذا تحولت التعليمات لتصبح «استراتيجية دولة» وكان ما يزال رافضا لها فواجبه أن يستقيل إذا تعذر عليه التعايش معها وتنفيذها حرفيا.
***
صعب جدا أن يدافع السفير عن تجاوزات وممارسات قمعية أو غير إنسانية ومتعارضة مع روح القانون والدستور، خاصة إذا كان معتمدا لدى دولة ديمقراطية تلتزم حرية الكلمة والتعبير وتحترم القانون. صعب ولكن غير مستحيل. نادرا ما حدث ، حسب علمي ، أن دبلوماسيا مخضرما يحترم مهنته ويلتزم أخلاقياتها وفنونها أوصى حكومته بزيادة استخدام القمع لحفظ الأمن، أو اقترح أساليب أشد عنفا. هو يعرف وحكومته يجب ان تعرف أن مهمته العمل على نبذ العنف وتقديم الدليل على احترام بلاده والتزامها أخلاقيات التحضر.
الدبلوماسية، كما كتب دبلوماسي غربي مخضرم ، هي خط الدفاع الأول عن الدولة، هي الترجمة الدقيقة «للاستراتيجية القومية». يقول شاس فريمان في مقال نشره بعنوان " أزمة أمريكا الدبلوماسية" ، أن الدبلوماسية يجب أن تسبق العمل العسكري في التعامل مع أي موقف صعب مع دولة أخرى. هي الخطوة الأولى في الدفاع، وهى أيضا الخطوة الأخيرة، فما من حرب تنشب وانتهت إلا وكانت الدبلوماسية جاهزة لتثبيت هزيمة الخصم في اتفاقيات ومعاهدات، وإقناعه بجدوى التعايش مع الوضع القائم الجديد رغم هزيمته. بمعنى آخر ، الدبلوماسية وليس المؤسسة العسكرية ولا أي مؤسسة أخرى الجهاز المسئول عن صياغة السلام. الآن يدرك الدبلوماسيون العرب وإن متأخرا جدا وبعد تجارب باهظة التكلفة أنه لا يجوز أن ينشغل الدبلوماسى عن مهمة تفادى الحرب وتسوية النزاعات وإدارة المفاوضات بمهمة تصعيد الخلافات وتعميق التوتر. ليس سرا أن بعض أقطارنا تستخدم دبلوماسييها فيما لا يجيدون، وأتمنى ألا يجيدوه، وهو التمهيد للحرب وتصعيد الخلافات وإثارة الأحقاد.
***
صديقاتي وأصدقائي، سفراء مصر الجدد، سوف يجدون في انتظارهم عقبة تسريبات الويكليكس وغيرها مما سوف يستجد بفضل التقدم التكنولوجي المطرد. سيجدون في انتظارهم أيضا مهمة الدفاع عن التجاوزات الأمنية والاعتقالات غير المبررة والتعذيب في السجون وتجاهل أحكام القانون في بعض الحالات . هم مطالبون أحيانا بتبرير ما قد يستحيل تبريره وهو من واجباتهم بشرط أن يحتفظوا بهيبتهم أمام الرأي العام ، وهي الهيبة التي بدونها لا يمكن ان يحقق خلال مدة عمله بالخارج انجازا يذكر.
سيجدون في انتظارهم وضعا جديدا في العمل الدبلوماسي صنعته ظروف ما بعد الحرب الباردة. أخص بالذكر ظاهرة تراجع مكانة الجهاز المسئول عن صنع السياسة الخارجية في عديد الدول لصالح مؤسسات الأمن المكلفة بحماية النظام الحاكم . سمعت من دبلوماسيين عرب وأجانب في كل مكان ذهبت اليه الشكوى من أن مؤسسات أمنية وأشباه مؤسسات صارت تنافس وزارة الخارجية في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، وأغلبها يتدخل في صنع هذه السياسة. جاء وقت كانت الدبلوماسية تفخر بأنها ذراع الرئيس الأطول والأوحد في الدفاع عن سياساته الخارجية، وكانت لها الكلمة الفصل في قضايا حيوية تتعلق بالسلم والحرب والأمن. لم يعد الأمر كذلك. أكثر الدبلوماسيين المصريين تحديدا ضجوا بالشكوى من سلوكيات إعلامية في وطنهم تنسف أولا بأول ما ينجزون . صار مألوفا في الإعلام المصري ، والعربي عموما، التعرض بالتشويه والإساءة لسياسات دول وثقافات شعوب وشخصيات حكام بدون وازع من ضمير أو فهم لمصلحة وطنية أو تقدير للتكلفة الباهظة التي تتحملها أرصدة الوطن السياسية ، وهي أرصدة، أو ما تبقى منها بعد التبديد، منهكة.
دبلوماسيون آخرون يعتقدون أن معظم السلبيات التي أساءت إلى سمعة السياسة الخارجية المصرية، ودور مصر الاقليمي والدولي. كانت بسبب تدخل مؤسسات أمن مصرية في إصدار توجيهات مباشرة للدبلوماسيين تتناقض و التوجهات الاستراتيجية المتفق أو المتوافق عليها ومع تعليمات وزارة الخارجية ومصالح الوطن المتشعبة والمتشابكة. يعتقدون وهم على حق ، أن الاختراق «غير المسئول» لمسيرة تنفيذ السياسة الخارجية المصرية كانت سببا رئيسا في انحسار مكانة مصر ثم في تدهور «هيبة الدولة» في مصر، ومن ثم في ثورة نشبت لاستعادة هذه الهيبة.
***
كثيرون في مناصب القيادة في الدبلوماسية المصرية، كما في غيرها من الدبلوماسيات العريقة ، واثقون من أنهم الأقدر على لعب دور مهم في تعزيز هيبة بلادهم، لو أعيد لقوى الحكم توازنها واستعادت السياسة الخارجية مكانتها، وحلت درجة أعلى من الشفافية محل الدرجة القصوى من التكتم والتعتيم الحاكمة للعلاقات بين مؤسسات الدولة. أتوقع أن تحاول الخارجية المصرية أن تنشط خلال الفترة القادمة من أجل تثبيت مكانتها بين غيرها من المؤسسات التى تسعى كل منها لملئ مساحة أكبر من قدراتها وإمكاناتها ودورها في إعادة بناء الدولة. أتوقع أن يتقدم الدبلوماسيون الصفوف ليكونوا أول من يعلق في الإعلام على الأحداث الخارجية.أدعوهم لزيارة الجامعات الاقليمية في كافة أنحاء مصر للاستماع إلى " الناس" أصحاب المصلحة الحقيقية في تنوع علاقاتنا العربية والاقليمية وارضاء فضولهم عن السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي.
***
لن يغفر التاريخ ولن تغفر الشعوب للدبلوماسيين خطأ تقع فيه مؤسسة من مؤسسات الدولة أثناء ممارستها علاقات مع الخارج. لاحظنا كيف ألقوا على الدبلوماسية المصرية بتبعة أخطاء ارتكبها هواة أثرت سلبا على زيارة رئيس مصر لألمانيا. تابعنا أيضا ، بكثير من الانزعاج، الهجوم الذى تعرضت له الدبلوماسية النيجيرية، عندما ارتكب رئيس نيجيريا فى ألمانيا خلال انعقاد مؤتمر قمة السبعة الكبار أخطاء جسيمة. منها أنه خاطب المسئولين الألمان كممثلين لدولة ألمانيا " الغربية" غير مدرك لحقيقة أن هذه الدولة اختفت من الخريطة قبل ربع قرن لتحل محلها ومحل المانيا "الشرقية " دولة المانيا الاتحادية . من الأخطاء أيضا أنه نادى على السيدة ميركل بالسيدة ميشيل، واعتبرها رئيسة الجمهورية وليست مستشارة ألمانيا. لم يكن مفاجئا، وإن كان ظلما بينا، إلقاء المسئولية كاملة على الدبلوماسية النيجيرية التي لم تلقن الرئيس المعلومات الأساسية المتعلقة برحلته إلى قمة السبعة العظام.
***
أشفق عليهم ، صديقات وأصدقاء ، وعلى كل الدبلوماسيين العرب، كلما خطر ببالي أنهم مطالبون بشرح طبيعة ما يحدث في الشرق الأوسط ، ومطالبون بتفسير ما وقع من ثورات خلال الربيع العرببي وما وقع لها ، ولا أظن أن كثيرين منهم سوف يلجأون لنظرية المؤامرة استسهالا أو تهربا ، هم يعلمون إنهم إن استسهلوا أو تهربوا كعادة بعض القوم هذه الأيام فقدوا احترام سامعيهم ، وربما أغلقت في وجوههم مصادر معلومات و شبكات علاقات طوال مدة إقامتهم.
كانت، وما تزال، فرصة رائعة لدبلوماسياتنا العربية مراقبة تجربة المفاوضات المثيرة التي تقودها الدبلوماسية الإيرانية مع دبلوماسيات الدول العظمى والخبرة التي تولدت عنها ، وكانت ، وما تزال، مقارنة مفيدة تلك التي يجب أن نجريها بين سلوك الدبلوماسيين الأتراك في سنوات انتعاش السياسة الخارجية التركية تحت شعار " صفر مشاكل" ، وسلوكهم الراهن في سنوات الانحسار منذ أن اتخذوا موقف الدفاع عن القمع في بلادهم وتجاوزات حكومتهم.
***
قلبي مع دبلوماسيينا.