هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
انتشر في الخمس سنوات الماضية أي منذ قيام ثورة 25ينايرمصطلح الدولة العميقة، وواضح من الاسم أنها الدولة الغير ظاهرة للعيان علي سطح الاحداث لكنها تؤثر في تلك الاحداث بشدة وذلك بإطلاق إشارات واضحة من مكان عميق وخفي أشبه بالغواصات البحرية. ولا يستطيع أحد من الدولة الظاهرة الرسمية المنضبطة الحاكمة أن يعرف مصدر هذه الاشارات فالدولة الرسمية الظاهرة للعيان تتحدث عن اهمية المشاريع القومية الضخمة ومحاربة الفساد والارهاب والتراخي في العمل....الخ، وكيف ان مشاريعها سوف تحقق انجازات على الارض. وهذه الانجازات ستكون بالتأكيد في صالح الدولة العميقة لأنها ببساطة تتكون من الغالبية العظمي للشعب المصري المنتشر في البلاد من أقصاها الى اقصاها فمنهم معظم موظفي الدولة في كل القطاعات ومعظم ضباط الشرطة والجيش وكل العساكر ومعظم نساء مصر العاملات وغير العاملات.
وما يميز هذه الدولة العميقة أنه ليس لها رئيس أو حكومة وليس لها جيش منفصل عن الجيش الوطني الظاهر للعيان وكذلك الشرطة أو الجامعات، ذلك ولأنهم منتشرون في كل هذه القطاعات فهم يمثلون الاكثرية، والقضية هنا انهم العامل الفاعل والاساسي في انجاح الدولة الظاهرة أو فشلها فشلاً ذريعاً بل واسقاطها. وهم لا يأخذون قراراً جماعياً بإنجاح الدولة الظاهرة او اسقاطها لكنهم يتحركون بروح واحدة كل في مكانه بداية من ربة المنزل الى طلبة الجامعة مروراً بالموظفين والعمال ....الخ دون اتفاق لكنهم يجدون انفسهم تلقائياً في اتجاه واحد وهم لا يعرفون بعضهم بعضاً. فكم اسقطوا من مشروعات عظيمة لم تعجبهم لسبب أو آخر وهذا ما حدث مع مشروعين قوميين مهمين ونافعين حتى بالنسبة لهم هما محو الامية وتنظيم الاسرة بدءاً بعبد الناصر حتي اليوم مروراً بالسادات ومبارك ومرسي وعدلي منصور ولم يستطع واحد من هؤلاء الرؤساء اقناعهم بالمشروعين.
هذه الدولة العميقة هي التي اسقطت عبد الناصر في حرب 1967 فالدولة الظاهرة كانت واثقة من النصر فالرئيس يثق في قائد الجيش وقائد الجيش يثق في قياداته، لكن الدولة العميقة كانت قد ادركت هزيمة الجيش في اليمن وكانت تشاهد العروض العسكرية للدولة الظاهرة وتطلق النكات عليها وكانت تسخر من القمع الشديد للمعارضة، واصبح شعار عبد الناصر لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مدعاة للفكاهة في كل بيت مع كل زوجة واولاد وفي كل مدرسة.
وبعد الهزيمة التي اسمتها الدولة الظاهرة "نكسة" كان رد فعل الدولة العميقة انه اسم الدلع للمحروسة "هزيمة".
ومات عبد الناصر وجاء السادات وفي حرب 1973 تماهت الدولة العميقة مع الدولة الظاهرة لكن مع محادثات فك الاشتباك مع اسرائيل عند الكيلو101بدأ فك الاشتباك بين الدولة العميقة والدولة الظاهرة وحدثت الوقيعة بينهما مع اتفاقية السلام كامب دافيد حيث افرغتها الدولة العميقة من مضمونها.
ولا تظن- عزيزي القاريء- ان انتصارات الدولة العميقة جاءت نتيجة تنظيم أو تخطيط لكنها جاء نتيجة عدم حماس ورفض وتراخي فمعظم ما رفضته كان مفيداً لها ولمستقبلها وغالباً كان رفضها عاطفياً وليس مبنياً على تفكير علمي أو موضوعي وكانت قيادات الدولة الظاهرة غير قادرة على توضيح وجهة نظرها فتقول أن الشعب غير فاهم وباللغة الشعبية "متوول"، والشخص المتوول هو الشخص الذي يحكم عاطفته اكثر من عقله فعندما لا يستريح لقرار أتى من جهة اعلى ينسحب داخلياً ويهمل في العمل الذي يقوم به ويصبح سلبياً وغير قادر على التمييز.
في 25ينايرايدت الدولة العميقة الإخوان بدعوة تجريبهم وهذه "تولة" في الفكر ومن خلالهم وصل مرسي للحكم. وسرعان ما اكتشفت الدولة العميقة خطأها وبدأت في اسقاطه بطريقتها أيضاً والتي تتضح من خلال العمل بدون حماس والتراخي والسلبية، فوقعت أزمة البنزين وانقطاع الكهرباء وفوضى الشوارع. وكان كل هذا يتم بطريقة تلقائية ومما ساعد على ذلك ان مرسي نفسه كان "متوولا"ً لأنه عاش في الظل طويلاً ولم يتدرب كيف يحكم، فهو ومن معه من خريجي "التولة العميقة" الى الدولة الظاهرة. وبسبب "تولتهم" سقطوا سريعاً.
وهنا أيدت الدولة العميقة الجيش والسيسي وخرجوا بالملايين في لحظة تاريخية غير مسبوقة فيها التحمت الدولة العميقة مع الدولة الظاهرة وهي من اعظم اللحظات في تاريخ الامة. لكن مع الوقت اكتشفت الدولة العميقة أن ليس كل من يحيطون بالسيسي يشبهونه فقمع الشرطة بدأ يعود، وقتل الضابط شيماء، وتحول شهود الواقعة الى متهمين، وقبضوا على شباب لسبب او آخر واودعوا السجون لفترات طويلة دون تحقيق، وظهر رموز حكم مبارك بعد حصولهم على البراءة وكأن الثورة لم تقم بعد، وبدأ الحديث عن ضغوط خارجية للمصالحة مع الاخوان، وتم حماية اعلاميين لأنهم يؤيدون النظام، وبدأت المزايدة على التيار الديني بانتقاد الفن والمسلسلات بادعاء انها اشياء اباحية وكأن الشعب المصري مازال طفلاً يحتاج لوصي يَّعلمه ما الذي يشاهده من عدمه، وازدادت قضايا ازدراء الاديان وهو الطريق الاسهل والاكثر فاعلية لقمع حرية الرأي، في ذات الوقت لم تعلن نتائج التحقيقات في قضايا عدة مثل قضية محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق.
كل هذا وبطريقة غير مباشرة وبدون وعي كان يفكر فيه القائمون على حراسة النائب العام هشام بركات ففقدوا تركيزهم وبدوا وكأنهم لا يهتمون بتغيير طريق السير وهم انفسهم سقطوا ضحايا الحادث.
أليس هذا التصرف هو "التولة" بعينها بل ان قادتهم على اعلى مستوى لم يفكوا شفرة اشارات المهاجمين بإذاعة فيديو مصرع وكلاء النيابة في سيناء وتوقع المحللون بان هناك عمليات ارهابية سوف تقع بمصر بتركيز شديد في الفترة بين 30 يونيو حتى 8 أغسطس موعد افتتاح قناة السويس، ثم يأتي المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون والفقهاء القانونيون التابعون للدولة الظاهرة ويتحدثون عن أن العملية الارهابية كانت على اعلى مستوى من التقنية والتدريب والاتقان التكنولوجي وانه بالمقارنة بين حادث وزير الداخلية السابق وحادث اغتيال النائب العام اكتشفوا ان انقاذ وزير الداخلية لم يكن بسبب حراسته او ذكاء البعض لكن كان بسبب ان الارهابي الذي ضغط على زر الريموت للتفجير تأخر لثواني قليلة فانفجرت سيارة المتفجرات بعد مرور سيارة الوزير بلحظات، أما ارهابي الحادث الاخير فكان اكثر مهارة واكثر اتقاناً في تنفيذ مهمته ثم يفاجئون بهجوم كاسح على خمسة أكمنة في رفح ويسقط العشرات من الضباط والعساكر وكأنهم لم يقرأوا ولم يلاحظوا .
عزيزي القارئ ان لم تكن هذه هي "التولة العميقة" فكيف تكون وهل يمكن ان تجدها في أي مكان آخر في العالم الحديث.