فهمي هويدي يكتب لـCNN: مشروع قانون الإرهاب الجديد بمصر بطاقة حمراء بوجه النشطاء السياسيين

الشرق الأوسط
نشر
12 دقيقة قراءة
تقرير فهمي هويدي
فهمي هويدي يكتب لـCNN: مشروع قانون الإرهاب الجديد بمصر بطاقة حمراء بوجه النشطاء السياسيين
قوات الأمن المصرية في موقع الهجوم الذي استهدف موكب النائب العام المصري، هشام بركات، والذي أدى لوفاتهCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم فهمي هويدي وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة فيه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

من مفارقات مشروع قانون الإرهاب الجديد ان تهديده لغير الإرهابيين أكبر وأن انحيازه للبطش دون العدل أقوى وأظهر.

(1)

محقون الإعلاميين لا ريب حين فزعوا من المادة ٣٣ التى قررت حبس كل من نشر أخبارا أو بيانات عن العمليات الإرهابية مخالفة للبيانات الرسمية. ذلك انها كانت مادة فاضحة اساءت إلى الذين وضعوا المشروع أو أقروه بقدر قمعها للعاملين فى مجال الإعلام. وقد انعكس ذلك الفزع على انتفاضة نقابة الصحفيين التى أصرت على إلغائها (خصوصا ان هناك عقوبات أخرى على إشاعة المعلومات الكاذبة)، كما عبر عنه سيل الكتابات التى استهجنت مضمون المادة، الأمر الذى حول الموضوع إلى قضية شغلت الرأى العام وعبأته ضد فكرة احتكار السلطة للحقيقة. وإذا كان ذلك شيئا جيدا إلا أن اسوأ ما فيه أنه صرف الانتباه عن مواد أخرى كارثية فى المشروع. تذرعت بحجة الإرهاب وأهدرت قيم العدالة والحرية التى هى الأصل والأهم.

يعزز هذا الرأى أنه حين تعرضت مصر فى أوائل التسعينيات إلى موجة من العمليات الإرهابية فإن الآلة التشريعية عمدت إلى تعديل الباب الثانى من الكتاب الثانى فى قانون العقوبات بحيث خصص للجرائم الإرهابية بموجب القانون ٩٧ لسنة ١٩٩٢. وفى دراسة حول الموضع أعدها المستشار سمير حافظ، ذكر أن التعديل «عصف بكل القواعد الجنائية»، حيث تضمن بعض المواد المنقولة من القانون الجنائى الإيطالى الذى وضعه الديكتاتور الفاشى موسولينى فى ثلاثينيات القرن الماضى للبطش بمعارضيه، وأضاف إليها مواد أخرى كان أهمها التوسع فى تعريف الإرهاب على نحو فضفاض شمل الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالاتصالات أو ا لمواصلات... إلخ. وخلال السنوات اللاحقة أجريت تعديلات عدة على الكتاب الثانى من قانون العقوبات بحيث أوفت الموضوع حقه وزيادة، الأمر الذى بدا مستغربا معه ان يعد مشروع جديد لقانون الإرهاب. ولم يكن لذلك من تفسير سوى ان المقصود به ردع الإرهابيين وإنما تهديد غير الإرهابيين وتخويفهم. رجح ذلك الاحتمال ان تعريف العمل الإرهابى فى المشروع جاء أوسع من التعريف الأصلى الفضفاض الذى جاء فى قانون ١٩٩٢. ذلك ان المشروع الجديد أضاف إلى استخدام القوة أو العنف فى تعريف الإرهاب مجرد «التهديد أو الترويع» الذى يعد إرهابا إذا أدى إلى الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعى أو الأمن القومى، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالموارد الطبيعية.. إلى آخر العناوين التى شملت جميع أنشطة المجال العام ويمكن أن يدرج تحتها أى فعل. بالتالى فإن أى مظاهرة سلمية من عشرة أشخاص أيا كان تواضع أهدافها يمكن ان تعد من قبيل التهديد أو الترويع لأنها قد تصبح سببا فى تعطيل المواصلات أو تهديد الأمن القومى. ومن ثم تصنف عملا إرهابيا والمشاركون فيها يصبحون إرهابيين، والباقى بعد ذلك معروف.

(2)

لقد تم تجاوز التعريف الكلاسيكى للإرهاب الذى تمثل فى انه كل فعل مادى توسل بالعنف والإكراه لفرض الرأى على الآخرين. وأصبح مجرد التفكير فى شىء من ذلك أو التحضير له جريمة إرهابية حتى إذا تم العدول عن الفكرة ولم تقع الجريمة (المادة ٣ من المشروع). وهو ما يسرى أيضا على ما يمكن ان يعد تحريضا بأى وسيلة من الخطابة إلى الكتابة إلى مواقع التواصل الاجتماعى، حتى إذا كان منصبا على البيئة أو تعطيل المواصلات العامة والخاصة، الأمر الذى يحول هذا النوع من التعبير عملا إرهابيا (المادة الرابعة). إلى غير ذلك من النصوص التى ينتهك بعضها الدستور الذى اعتبر التظاهر السلمى حقا مشروعا مثلا، فى حين انه عمل إرهابى فى المشروع ناهية عن ان قانون التظاهر يجرمه. وهناك مواد أخرى محكوم ببطلانها من المحكمة الدستورية، وهى تلك التى استخدمت فى التجريم مصطلحات فضفاضة لتوسيع دائرة الاتهام، أو التى عاقبت على النوايا والشروع الذى لم يترجم إلى فعل مادى. وهو ما درجت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا فى قضايا عدة. أخص بالذكر منها الحكم الذى أصدرته فى القضية رقم ١١٤ لسنة ٢١ قضائية، فى شهر يونيو عام ٢٠٠١، وأبطلت فيه المادة ٤٨ من قانون العقوبات استنادا إلى انه «لا يجوز للمشرع الجنائى أن يعاقب على مجرد الأفكار والنوايا، باعتبار أن أوامر القانون ونواهيه لا تنتهك بالنية وحدها. وإنما بالأفعال التى تصدر عن إرادة آثمة. فضلا عن أن النص جاءت صياغته واسعة يمكن تحميلها بأكثر من معنى وتتعدد تأويلاتها. إذ ترك تحديد الأعمال المجهزة والمسهلة للجريمة لاجتهادات مختلفة، مما يفقده خاصية اليقين التى يجب توافرها فى النصوص الجزائية.

فى حكم آخر ذكرت المحكمة الدستورية ان القوانين الجزائية يجب «ان تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها، ليبلغ اليقين بها حدا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية وفق معايير شخصية تنال من الأبرياء» ــ دستورية عليا فى ٢/١/١٩٩٣ فى أكتوبر ١٩٩٤. كما اشترطت المحكمة الدستورية على المشرع ضبط النصوص العقابية بما يحدد مقاصده منها بصورة، ينحسم بها كل جدل حول حقيقتها، حتى لا تفقد هذه النصوص وضوحها ويقينها. وهما مطلبان فيها حتى يعرف المخاطبون بها حدود ما نهاهم المشروع عنه أو أمرهم به. (دستورية عليا فى ٣/٢/١٩٦٦ وفى ٥/٧/١٩٩٧).

مثل هذه الأحكام تعنى بطلان كل ما ورد فى المشروع من إشارات بخصوص العمل الإرهابى أو الكيانات الإرهابية، وكونه ينصرف إلى الإخلال بالنظام العام أو الأمن العام أو تعريض سلامة المجتمع للخطر أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو بالبيئة وغير ذلك. الأمر الذى يؤكد ان تلك العناوين اقحمت على القانون ما ليس فيه.

(3)

ان من يقدم على عمل إرهابى حقيقى فى مجتمعاتنا كائن يتصور انه يقوم بعملية استشهادية. الأمر الذى يعنى انه ذاهب إلى الموت بإرادته، والمتمنطق بالحزام الناسف على رأس هؤلاء. لذلك فإن تغليظ العقوبة والتوسع فى أحكام الإعدام لن يخيفه أو يردعه. لذلك قلت ان مواد مشروع قانون الإرهاب تهدد غير الإرهابيين. وهو تحليل إذا صح فإن المخاطب به هو النشطاء السياسيون الذين يعارضون السلطة أو كل من لا ترضى عنه السلطة وان لم يعارضها. مثل منظمات المجتمع المدنى التى تدافع عن الحريات والحقوق الشخصية والمظاهرات التى ترفع شعارات المطالب الفئوية، وبهذا المفهوم يصطف قانون مكافحة الإرهاب إلى قانون تنظيم التظاهر. إذ يصبح الأول وسيلة لقمع غير الإرهابيين فى حين يستهدف الثانى منع التظاهر وإراحة السلطة من الصداع الذى يسببه لها.

فى إطلاق يد السلطة لقمع غير الإرهابيين نصت مواد المشروع على ما يلى: عدم مساءلة الشرطة عن استخدام القوة بحق المواطن، باعتبار انهم يؤدون واجبهم وقد «يضطرون» إلى ذلك لحماية أنفسهم (المادة السادسة).. الحكم بالسجن المؤبد أو المشدد على كل من حاول بأساليب عدة بينها «الترويع» تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهورى أو شكل الحكومة (مادة ١٦) والترويع هنا يمكن ان ينطبق على المظاهرات التى تطالب بإحداث أى تغيير حتى إذا طال الحكومة ــ السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمس سنوات لكل من تعامل مع شبكة الاتصالات والمعلومات الدولية واستخدامها لبث الأفكار الإرهابية أو تقليل السلطات الأمنية أو التأثير على سير العدالة (المادة ٢٧) ــ غرامة لا تزيد على عشرة آلاف جنيه لكل من قام بتسجيل أو تصوير جلسات قضايا الإرهاب التى يفترض أنها علنية (المادة ١٣٧) واستثنيت من الحظر هيئة الأمن القومى ــ تخويل مأمور الضبط القضائى سلطة حبس أى مشتبه لمدة ٢٤ ساعة وللنيابة العامة ان تمد الحبس لمدة أو مدد أخرى (المادة ٣٨) وهو ما يوسع من دائرة الحبس الاحتياطى الذى يعانى منه الآلاف ويرفع شعار المتهم مدان حتى تثبت براءته ــ إجازة إصدار حكم فى أى قضية فى غياب المتهم إذا حضر وكيل عنه (المادة ٥٠) ــ بدعوى اختصار إجراءات التقاضى أعطيت محكمة النقض سلطة الفصل فى الموضوع (المادة ٥٢) الأمر الذى يهدر دورها لحارسه للقانون ويهدر حق المتهم فى المحاكمة العادلة ويحولها إلى محكمة استئناف أخرى ــ تخويل رئيس الجمهورية فى غياب أى رقابة برلمانية سلطة إخلاء بعض الأماكن أو حظر التجول فيها بأوامر شفوية بما يعنى إعلان الطوارئ دون تطبيق حالة الطوارئ (المادة ٥٤) ــ ملحوظة: اعتمدت فى التحليل السابق على مصادر عدة فى مقدمتها الدراسة التى أعدتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان للمشروع الذى وصفته بأنه قانون لمكافحة الحريات.

(4)

قد لا أبالغ إذا قلت إن المشروع على جملته يرفع البطاقة الحمراء فى مواجهة النشطاء السياسيين بالدرجة الأولى. ولم يبالغ من وصفه بأنه عقابى وانتقامى يستهدف أمورا عدة ليس بينها مكافحة الإرهاب. وهو بذلك يضاف إلى قوانين وإجراءات أخرى هى: قانون التظاهر ــ مد الحبس الاحتياطى ــ عقد المحاكمات فى بؤر التعذيب مثل معهد أمناء الشرطة ومعسكرات الأمن المركزى إلى جانب قانون الكيانات الإرهابية. وهو ما يضعنا أمام خلاصتين. الأولى تقنين الطوارئ وتحويلها من إجراء استثنائى يفرض فى حالات معينة ولمدة محددة إلى جزء من النظام القانونى القائم والمستمر. الثانية ان فكرة القانون تفرغ من مضمونها، بحيث يتحول من ميزان لإحقاق الحق والعدل والدفاع عن حريات الناس وكراماتهم إلى أداة تستخدمها السلطة للبطش بالناس وقمع المعارضين وتشديد قبضتها على المجتمع. وتلك أجواء لا تكافح الإرهاب من أى باب، لكنها توسع من نطاقه وتؤججه، لأن خبرات التاريخ ودروسه علمتنا ان العنف يولد العنف، لكن أقل الناس حظا فى النجاح هم أولئك الذين لا يتعلمون شيئا من دروس التاريخ.

حتى إذا صدر القانون وطبق فإن أى باحث منصف لن يستطيع ان يتوقع تحقيقه لأى تقدم فى مكافحة الإرهاب، لأننا سنصبح إزاء قرينة دالة على ان الكلام الجاد فى مكافحة الإرهاب لم يبدأ بعد. ذلك اننا لا نستطيع أن نخطو خطوة واحدة فى علاج داء لم تعرف بشكل جاد أسبابه ومصادره، فى حين نوظفه ونستثمره لتحقيق أغراض أخرى.