هذا المقال بقلم أ.د. ألون بن مئير أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك، ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية، وهو يعبّر فقط عن رأي كاتبه ولا يعكس بأي حال من الأحوال وجهة نظر CNN.
لقد استُخدم مصطلح "مأساوي" مرارا ً لوصف الحرب الأهليّة في سوريا، ولكنه وصف باهت للجنون المستعرّ على أرض الواقع. فالنزيف الدموي والدّمار الرّهيب الذي اجتاح البلد ليس مجرّد حدث مأساوي، بل إنّ حجم الدمار وخسارة الأرواح يفوقان أي مقياس كارثيّ لم يسبق له مثيل منذ أهوال الحرب العالميّة الثانية. العالم ينظر إلى هذه الكارثة إلى حدّ كبير بعدم اكتراث، وأولئك الذين لهم مصالح فريدة في الصّراع يلعبون السياسات بأرواح مئات الألوف من السوريين الذين ماتوا عبثا ً حيث لا خلاص في الموت، هذا فيما ما زال ينتظر الأحياء منهم معاناة لا توصف وألم يفوق كلّ تصوّر.
أجل، تصوّر فقط حجم الكارثة التي أطاحت ببلد وشعب من قبل حاكم مستبدّ وشرّير مصمّم على البقاء في السلطة حتّى على حساب تعريض بلده للدمار بالجملة:
عندما يُقتل 250.000 رجل وامرأة وطفل ويصبح أربعة ملايين شخص لاجئين يستقون كأس الذلّ والمرار في المخيمات، هذا ما أسمّيه كارثة.
وعندما ينزح سبعة ملايين عن ديارهم داخل البلد، ويصبح (14) مليون شخص بحاجة لمساعدة إنسانية، ويُمنع عشرات الآلاف من الهروب ويصبحوا عاجزين عن استلام أية إغاثة أو معونة دوليّة، ويصبح نصف البلد في أنقاض ودمار، فهذا ما أسميّه أيضا ً كارثة.
وأكثر شيء كارثي ومأساوي هو أن ترى جيلا ً كاملا ً من الشباب السوريين قد ضاع لأنه سيتحمّل عواقب كارثيّة وخيمة على المدى الطويل التي سيعاني منها الشعب السّوري عقودا ً طويلة من الزّمن.
من المحزن أن نرى بأن مساعدة إدارة أوباما لإنقاذ حياة عشرات الألآف من المدنيين السوريين الأبرياء قد فترت في أحسن الأحوال. والدّول العربيّة، رغم أنها تقدّم بعض المساعدات للثوار والمعارضين السوريين، غير أنها لا ترغب في إرسال قوات بريّة كانت وما زالت ضروريّة لهزم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".
ونرى روسيا وإيران تقفان مع حليفهما الذي لا يرحم، نظام الأسد، ولا يدّخران جهدا ً في تزويده بالمساعدات العسكريّة والماليّة والتوجيه اللوجستي الذي يحتاجه ليستمرّ في حصد أرواح شعبه بآلية القتل التي يديرها. مصالحهما السياسيّة والإستراتيجيّة في سوريا تفوق أية اعتبارات لرخاء وسعادة هذا البلد، وهما سيعملان أي شيء لحماية مصالحهما الوطنيّة وتشكيل مستقبل البلد بما يتناسب مع احتياجاتهما.
وفي حين أنّ الولايات المتحدة وبعض حلفائها مشغولين في محاربة "داعش" من الجوّ، فقد تركوا الأسد حرّا ً في إنزال براميل متفجرة وقتل الآلاف من شعبه بدون تمييز كلّ شهر ومسح أحياء بكاملها من الوجود بدون عقاب تقريبا ً. والآن على أية حال وقد اعترف الأسد بأنه يتراجع وبحاجة لعدد ٍ كاف ٍ من القوات لمحاربة الثوار والمعارضة على جميع الجبهات، وإيران وروسيا تخشيان بأن امتداد "داعش" قد يسلبهما نفوذهما في سوريا، فقد شرعوا جميعا ً الآن في البحث عن حلّ سياسي:
لقد أرسل الأسد بدافع اليأس وزير خارجيته، وليد المعلّم، لاستقصاء فرصة جديدة لمباحثات السّلام مع الثوار والمعارضة السورية ترتبها عُمان. وطرحت إيران مشروع سلام حمله شخصيّا ً وزير خارجية إيران، محمد ظريف، للأسد يتضمّن هدنة وحكومة وحدة تتقاسم السلطة مع الأسد مع بقائه رئيساً، على الأقلّ في الوقت الحاضر. وقامت روسيا بدعوة ممثلي الثوار والمعارضة السوريّة ومبعوثين عن حكومة الأسد لزيارة موسكو لعقد مباحثات سلام.
وفي حين تبدو هذه المبادرات ضرورية ظاهريّاً، لن يؤدي أي منها لحلّ ما لم تنسّق واشنطن وطهران وموسكو جهودا ً مشتركة لإنهاء الحرب في سوريا، الأمر الذي يبدو الآن أكثر احتمالا ً في صحوة الصفقة النوويّة مع إيران. هذا لا يعني بأنه لن تكون هناك صعوبات أو عقبات كبيرة بعد الآن، فالدّول العربيّة سنيّة المذهب لا تدير حوارا ً جديّا ً مع حليفي الأسد الرئيسيين وهما إيران وروسيا، وأي اتفاق يكون مقبولا ً لهاتين الدّولتين ليس من المحتمل أن يكون مرضيا ً للدّول العربيّة السنيّة وبالأخص المملكة العربيّة السعوديّة ومصر.
وبمجرّد أن نفّذت الولايات المتحدة ضربتها الأولى بطائرات بدون طيّار داخل الأراضي الواقعة في شمال سوريا من قواعد في تركيا مستهدفة ً "داعش" لوحده، أصبحت الولايات المتحدة في الواقع حليفا ً للأسد مع عدم إعطائه أيّ سبب لوقف تدمير البلد.
وبالّرغم أنّ تركيا وافقت مع إدارة أوباما للسماح بضربات أمريكيّة جويّة على أهداف "داعش" من قواعد جويّة تركيّة، فإنّ أنقرة تستغلّ الترتيب الجديد لضرب الأكراد في سوريا. فهدف تركيا ليس فقط إضعاف حزب العمال الكردستاني، بل أيضا ً إعاقة الأكراد السوريين من توطيد خططهم ومشاريعهم لإقامة كيان مستقلّ، الأمر الذي قد يشجّع الأكراد الأتراك على السير حذوهم.
ومن باب السّخرية، فبالرغم من الإختلافات القويّة ما بين اللاعبين الرئيسيين وأهدافهما القصيرة والبعيدة الأمد في سوريا، توفّر مصلحتهما المشتركة في هزيمة "داعش" فرصة ً لجميع البلدان المتورطة أو المشتركة في سوريا بأن تعمل بشكل ٍ جماعي من أجل التوصّل لحلّ سياسي للحرب الأهليّة في سوريا.
وحيث أنّ التطرّف العنيف والثورات السياسيّة تكتسح الشرق الأوسط وأرجاء واسعة من الأراضي السورية والعراقيّة ما زالت تحت سيطرة "داعش"، فإنّ هذا كلّه من شأنه أن يعطي المزيد من الدافع والزّخم لمحاولة إنهاء الصّراع في سوريا قبل أن تتفكّك البلد كليّا ً.
أضف إلى ذلك، بالنّظر لتغيّر الأوضاع على أرض الواقع وأصبح الإستغناء عن الأسد على نحو ٍ متزايد، قد تميل إيران وروسيا الآن أكثر في هذه المرحلة الحاسمة لإيجاد حلّ سياسي يستقصي الأسد.
وعلى ضوء ما تقدّم، أيّ حلّ سياسي يجب أن يكون مرسيّا ً على إنشاء حكومة إنتقاليّة جديدة يقودها ممثّلو الأغلبيّة السنيّة مع تمثيل نسبي لجميع الفصائل والمجموعات العرقيّة والدينيّة الأخرى، بما فيهم العلويين.
ينبغي على الولايات المتحدة وجميع الأطراف الأخرى المعنيّة باستقرار سوريا مستقبلا ً ألاّ ترتكب نفس الأخطاء التي ارتكبت في مصر وليبيا بالدّفع لانتخابات مبكّرة وكتابة دستور ٍ جديد للبلاد قبل الأوان. هذا وينبغي على الحكومة الإنتقاليّة في سوريا أن تبقى في مكانها لفترة خمسة أعوام ٍ على الأقلّ تقوم خلالها بإعادة إعمار البلد والحفاظ على الأمن الداخلي.
وإبّان ذلك، سيكون للأحزاب السياسيّة الوقت لتنظيم وتطوير أجندة سياسيّة يستطيع الشّعب أن يتعرّف عليها قبل إجراء الإنتخابات ويكون قد أخذ الشعب الوقت اللازم ليتعافى ممّا حلّ به ويعود لنوع ٍ من الحالة السويّة.
ولإظهار نواياهما الحسنة، ينبغي على روسيا وإيران أن تنذرا الأسد بأنّ عليه التوقّف فورا ً عن إسقاط براميل متفجّرة من الجوّ والكفّ عن ذلك كليّا ً. وإذا رفض ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون مستعدّة لضرب المنشآت العسكريّة السوريّة لإيقاف الأسد عن إمطار شعبه بالبراميل المتفجرة، هذا بموافقة أو حتّى بدون موافقة إيران وروسيا.
لا يستطيع أيّ طرف ٍ من الأطراف المعنيّة في الصّراع السوري أن يأخذ كلّ شيء. والسؤال هو: هل ستجنّد هذه الأطراف جميعا ً الشجاعة الأخلاقيّة والأدبيّة وتجد حلاّ ً يجنّب ما تبقّى من سوريا من كارثة يشاهدها العالم بصمت ٍ مطبق لفترة تقارب الخمسة أعوام ؟