قراءة أخرى للأزمة في ليبيا بقلم فهمي هويدي

الشرق الأوسط
نشر
12 دقيقة قراءة
تقرير فهمي هويدي
قراءة أخرى للأزمة في ليبيا بقلم فهمي هويدي
مقاتلون من "فجر ليبيا" خلال اشتباكات مع القوات الموالية للحكومة جنوب غربي مدينة صبراتةCredit: MAHMUD TURKIA/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم فهمي هويدي وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

ليبيا فى الإعلام العربي غيرها على أرض الواقع، حتى يبدو وكأن الأول بلد مختلف عن الثاني. هذه محاولة لقراءة الحالة الليبية من خارج الصورة النمطية.

(1)

 هى فى الاعلام ساحة يتمدد فيها الارهاب ويتوحش بدرجة اصبحت تقلق الجيران وتهدد الامن القومى المصرى، ولكن الجيش الوطنى يحاول جاهداً وقف ذلك التمدد وافشال مخططاته، الا ان جهوده لا تزال قاصرة لانه بحاجة الى سلاح يؤدي به واجبه ويده مغلولة فى ذلك بسب الحظر الدولى.

تلك هى الصورة النمطية الرائجة فى وسائل الاعلام العربية، عالية الصوت التى تعبر عن عواصم الاقليم ذات الصلة بالوضع الليبى. احدث ما وقعت عليه فى هذا الصدد خبرا ابرزته جريدة الوطن المصرية على صفحتها الاولى (فى 22/8) ذكر ما يلى: عقد تنظيم داعش اجتماعا فى نهاية الاسبوع الماضى حضره ممثلون عن جهاز مخابرات اجنبى باحدى المناطق الحدودية  الليبية واشترك فيه 30 عنصرا من الجانبين .. واتفق الجانبان على وضع مخطط جديد للنيل من الامن القومى المصرى  من خلال تحرك داعش تجاه الحدود مع مصر، واقامة معسكرات تدريبية لاعداد عناصر مسلحة لخلق توترات على الحدود المصرية. وقد تعهد جهاز المخابرات (المشارك) بتوفير احدث الاسلحة والمعدات والاتصالات اللازمة لتنفيذ عمليتها.

(2)

موقف الاعلام العربى عاكس لمواقف دوله الشريكة فى الصراع الدائر على الارض. اذ لم يعد سرا ان مصر و الامارات تساندان عملية الكرامة فى الشرق، فى حين ان قطر و تركيا تساندان فجر ليبيا فى الغرب. كما بات معلوماً ورائجاً ان جماعة الكرامة المتمركزين فى طبرق القريبة من الحدود المصرية يعتبرون خصومهم المتحصنين فى طرابلس بانهم ارهابيون. اما جماعة فجر ليبيا فانهم يصنفون مجموعة الكرامة بانهم يمثلون الثورة المضادة، التى  تسعى لاجهاض ثورة فبراير التى اطاحت بالرئيس السابق معمر القذافى. و كل منهما يطعن فى شرعية الاخر ويعتبر نفسه ممثلا للشعب الليبى. وهذه معلومات صحيحة لكنها منقوصة- ان شئت فقل ان تلك قراءة تختزل المشهد و تتعامل معه بتبسيط شديد ومخل لانه مسكون بقدر هائل من التفاصيل التى منها ما يلى.

•  ان تنظيم داعش لا يمثل خطراً على ليبيا وابعد من ذلك بكثير ان يهدد امن مصر كما يقول الصحفى الليبى هشام الشلوى. هو مشكلة فى ليبيا صحيح لكن يصعب تصنيفه خطرا. اذ للتنظيم وجوده فى درنة التى تبعد عن مقر البرلمان فى طبرق مسافة 175 كم، مع ذلك فان عناصر المقاومة الشعبية طردتهم من هناك خلال ساعات محدودة. واصبح لهم وجوداً فى بؤرة محدودة على بعد 40 كلم منها. لهم بؤرة ثانية فى بنغازى حيث انضم اليهم بعض اعضاء جماعة انصار الشريعة ، وهذه تبعد 1200 كم عن مقر السلطة فى طرابلس، ولهم بؤرة ثالثة او قاعدة فى سرت التى تمددوا  فيها مؤخراً، بعد اشتباكات تمت المبالغة فى حجمها  كثيرا فى حين ان الذين قتلوا فيها لم يتجاوزا ثلاثين شخصا. لكن هذه المدينة التى كانت اسيره لدى القذافى، تبعد مسافة 400 كم عن طرابلس. وهى خلفية تسوغ لنا ان نقول بان وجودهم الذى لا يتجاوز المئات لا يهدد معاقل السلطة.

.ان داعش لا تحارب وحدها، ولكنها مؤيدة من عناصر النظام السابق ومن قبيلة القذاذفة التى ينتمى اليها معمر القذافى. ولا ينسى فى هذه الصورة ان احمد قذاف الدم، منسق العلاقات الخارجية فى عهده، امتدح داعش فى حوار بثته احدى القنوات الخاصة المصرية يوم 17 يناير الماضى، وقال انهم لم يجدوا احدا يدافع عن كرامة الامة فلجاوا الى الهروب الى الله. ونشر كلامه صحيفة القدس العربى اللندنية الصادرة فى 18 يناير تحت عنوان نسب الى احمد قذاف الدم قوله: انا مع داعش و هم شباب انقياء.

.ان ما يوصف بانه الجيش الوطنى الليبى له وجوده فى وسائل الاعلام اكبر من وجوده على الارض، ذلك ان القذافى كان قد الغى الجيش وحوله الى مجموعة من الكتائب التى وزعها على اولاده. والعنوان الذى يجرى تسويقه الان ينصرف الى مجموعة من العسكريين الذين يلتفون حول اللواء خليفة حفتر لاسباب قبلية او علاقات ومصالح خاصة، ومعهم  بعض الميليشيات المحلية التى لها مصالحها المشروعة وغير المشروعة. وهؤلاء لم يحققوا انجازا عسكريا يذكر على الارض طوال 18 شهرا، لا فى بنغازى التى هى فى المنطقة الشرقية ولا فى المنطقة الغربية. و لولا الدعم العسكرى الخارجى والدعاية الاعلامية التى تقوم بها المنابر الموالية لهم لاندثر الجيش منذ شهور.

هناك اعتبار مهم يتعذر تجاهله فى هذا السياق، وهو ان قيادة اللواء حفتر «للجيش» محل خلاف بين العسكريين. وقد ظهر هذا الخلاف على السطح  بعدما قرر حفتر نقل مقر مدرسة الصاعقة التى تخرج القوات الخاصة من مكانها فى بنغازى الى مدينة المرج الواقعة فى الشرق من بنغازى، التى تعد معقلا لمجموعة الكرامة لكى يضمن ولاء خريجيها له.

(3)

العامل الاكثر اهمية وحسما فى المشهد ان الخريطة السياسية الليبية طرأ عليها تغيير بمضى الوقت. فلم تعد الصورة مقصورة على جبهة فى الشرق على راسها اللواء حفتر و خاضعة لنفوذ مجموعة الكرامة ومجلس النواب وحكومة عبد الله الثنى، واخرى فى الغرب خاضعة لنفوذ فجر ليبيا والمؤتمر الوطنى وحكومة خليفة الغويل. ذلك ان الحوارات التى تمت خلال الاشهر الاخيرة خصوصا الذى جرى فى الصخيرات بالمغرب افرزت وضعا جديدا غير من معالم الاستقطاب القائم. وعلى حد تعبير احد وثيقى الصلة بالمشهد فان التباين والانقسام ازاء الحلول السياسية او الحسم العسكرى شمل الجميع، بحيث لم يعد هناك مكون سياسى او بلدى او اجتماعى فى الشرق والغرب الا وانقسم اعضاؤه و توزعوا على المعسكرين بين فريق احدهما يؤيد الاتفاق السياسى ويحبذ الوفاق الوطنى، و يعتبر ان ذلك هو المخرج الوحيد للازمة ، و الثانى لا يحدد بديلاً عن الحسم العسكرى لاستئصال الارهاب فى جانب و ما اعتبر ثورة فى الجانب الاخر.

فى هذا الصدد ذكر الباحث الليبى اسماعيل القريتلى انه فى المنطقة الغربية اتضح تاثير حوار الصخيرات على خارطة التحالفات الجهوية والسياسية. فنشأ تيار يقوده اعيان ورجال اعمال وقادة سياسيون من مصراتة و كان محسوبا على النظام السابق فى بداية الثورة ولكنهم شاركوا فى دعمها بحيث اصبح لهم تاثير على تشكيلات عسكرية كبرى فى المدينة. هذا التيار استطاع ان يعيد علاقة مصراتة مع المناطق التى تناهضها مجموعات فى فجر ليبيا. فعقد ممثلوه مصالحات و لقاءات فى ورشفانة و الزنتان و مناطق اخرى فى باطن الجبل. و دعم عديد من محاولات الصلح بين ورشفانة و الزوالية و مناطق عدة فى الجنوب الغربى. هذا التيار عارض التوقيع على مشروع الحل الذى قدمه المبعوث الدولى برناردينو ليون فى مواجهة تيار اخر فى المؤتمر الوطنى ايده . وذلك لا يختلف كثيرا عن الحاصل فى معسكر الكرامة المقابل، حيث الانقسام ظاهر فى مجلس النواب بطبرق. و بالاطلاع على ما يدونه بعض اعضائه يتضح ان هناك اعادة تشكيل فى تحالفاتهم فهناك انقسام داخل الكتلة المؤيدة لتحالف القوى الوطنية و خلاف واضح بين وفد الحوار (الذى شارك فى مؤتمر الصخيرات) و لجنة المستشارين التى تم حلها من قبل رئيس مجلس النواب الذى ايد فكرة التوقيع على مشروع المبعوث الدولى. على صعيد اخر فان الفيدراليين فى مجلس النواب (الذين يدعون الى حكم ذاتى فى برقة) يحاولون اعادة تنظيم صفوفهم، و يسعون لطرح رؤية يصل التصعيد اليها الى حد تشكيل حكومة لاقليم برقه، و اعادة ترتيب موارده و قواته العسكرية والامنية.

(4)

التباين الاخطر والاقوى تاثيرا حاصل فى مواقف الخارج وليس الداخل. ذلك ان دول الاقليم المحيطة منقسمة بدورها بين طرف يدعو الى الحل السياسى الذى تشترك فيه كل الاطراف تقوده قطر و تركيا و معهما الجزائر والمغرب والسودان. ودول اخرى تنحاز الى طرف واحد يتمثل فى معسكر الكرامة الذى يقوده اللواء حفتر و تقوده مصر والامارات. وكل طرف يستخدم اوراق الضغط الدبلوماسي وغير الدبلوماسي لتعزيز موقفه؛ فالأولون يعتبرون التوافق الوطني المتكافئ هو الحل و الاخرون يشددون على ان مكافحة الارهاب تمثل اولوية قصوى لديهم.

خبراء الشأن الليبى الذين تحدثت اليهم يلفتون النظر فى هذا السياق الى الملاحظات التالية.

* ان حالة التفكك الحاصلة فى البلاد لم تمكن تنظيم داعش من التمدد على الارض فحسب، ولكنها اتاحت الفرصة لانصار النظام السابق لكى يرفعوا اصواتهم فى عدة مناطق -- فهمي هويدي -طبرق وبنغازى فى مقدمتها- مطالبين باطلاق سراح نجل القذافى سيف الاسلام، و تمكينه من حكم ليبيا، كما طالبوا باطلاق سراح رموز نظام القذافى الذين يحاكمون فى غرب ليبيا بدعوى انهم من الشخصيات الوطنية، ولم تقابل تلك الدعوات باى اعتراض.

* ان الصراع السياسى يستأثر بالاهتمام الذى صرف الانتباه الى العنف العرقى الحاصل فى منطقة الكُفرة او الخلاف الحاصل بين شيوخ قبائل المنطقة الشرقية حول مناطق نفوذها، او الوقيعة بين الشرق والغرب  و الادعاء بان بعض سكان الغرب من اصول تركية وليسوا مواطنين اصلاء.

* ان مشروع اللواء خليفة حفتر الاساسى يقوم على استبعاد الحل السياسى وتجميد المؤتمر الوطنى. و رغم اعلانه فى بداية عملية الكرامة (16 مايو 2014) انها ليست انقلابا وان الجيش لن يمارس السياسة، الا انه يسعى مع انصاره الان الى تشكيل مجلس عسكرى برئاسته لممارسة السلطة فى ليبيا.

* ان التركيبة القبلية والعرقية توفر لليبيا وضعا شديد الخصوصية، يختلف عن اى وضع اخر فى دول الجوار. وينبه هؤلاء الى صعوبة استنساخ النموذج المصرى الذى يحاول البعض اقتباسه ونقل صيغته و صراعاته الى الساحة الليبية.

* اخيراً يذكر اولئك الخبراء بان الثورة الليبية التى انطلقت فى شهر فبراير عام 2011 تمثل احد تجليات الربيع العربى ومحاولات خنقها او اجهاضها ليست بعيدة تماما عن مشروع تصفية الربيع العربى وازالة أثاره الذى حقق نجاحات مشهودة فى دول عربية اخرى.