هذا المقال بقلم مصطفى النجار، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
جاءت مظاهرات لبنان الأخيرة لتمثل إيقاظا لمفهوم الربيع العربى الذى تم تشويهه خلال السنوات الماضية وتمت تزامنا مع المظاهرات التى اندلعت فى العراق ضد الفساد والطائفية، لم ترفع هذه المظاهرات شعارات إسقاط النظام وإنما خرجت لتعبر عن غضب قطاعات شعبية واسعة من طريقة إدارة البلاد وأكدت رفضها للسياسات العامة التى تنتهجها الأنظمة الحاكمة.
الثورات المضادة عملت على تشويه مفهوم الربيع العربى لتسهل عملية قمع الثورات وحصارها وتحجيم آثارها للعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل اندلاع الثورات، ومع تكرار وصف الربيع العربى بالمؤامرة ونسبته للخارج لخلع رداء الوطنية عن منطلقاته ودوافعه أجد أننا بحاجة لتذكير الناس بماهية هذا الربيع المفترى عليه.
الربيع العربى لم يكن نتاجا لسياسات دولية ولا تدخلات إقليمية بل كان مجموعة من الانفجارات الداخلية الناتجة عن تراكمات ثقيلة من الاستبداد السياسى والتمييز الاجتماعى وسوء الأوضاع الاقتصادية، عبًر الربيع العربى عن حالة خصام جيلية وانفصال بين أجيال شابة ونخب شابت وتجمدت أفكارها وصارت توطًن نفسها مع الواقع البائس وتتعايش معه وتُنظر لاستمراره تحت مزاعم شتى ثبت وهنها وضحالتها تحت أقدام الشباب المتظاهرين وهتافاتهم التى زأرت بها ميادين الحرية.
***
رسالة الربيع العربى كانت مركبة ومتخطية للمشاريع الايدلوجية والاتجاهات السياسية فقد دمجت فى مطالبها الحريات العامة والممارسة الديمقراطية والمطالب الاجتماعية مع لون الحياة الإنسانية التى يتوق لها الجيل الشاب الذى استطاع عبر وسائل الاتصال الحديث الاقتراب أكثر من العالم المتحضر وتخيل نقل هذه النماذج الناجحة إلى بلاده.
لم تكن رسالة الربيع العربى فى موجته الأولى معنية بإسلاميين ولا ليبراليين ولا يساريين؛ بل كانت معنية بقطاعات من الشعب شعرت أنها بعيدة عن الحياة الآدمية وأنها تستحق أن تعيش مثل باقى البشر الذين يحيون حياة كريمة يشعرون فيها بإنسانيتهم، كان النداء الأول إنسانيا قبل أن يكون سياسيا لذا دوى رنينه بين الأقطار العربية التى اندلعت فيها التظاهرات المطالبة بتغيير نمط هذه الحياة بالكامل.
فاجأ الربيع العربى الجميع فقد كان مباغتا وعفويا للدرجة التى يعجز معها عن التفسير أو التحليل وكما أُسقط فى يد الانظمة الحاكمة كانت هناك صدمة بالغة فى الدوائر الغربية التى تجمد رد فعلها فى الايام الاولى قبل أن تستوعب أن هناك موجة تغيير قد شبت نيرانها فى هذه المنطقة من العالم التى كانوا يقولون عنها أنها لا يمكن أن تثور.
ليس عيبا أن نعترف أن الربيع العربى لم يكن مشروعا متكاملا يحمل رؤية ونموذجا كاملا لبناء الدولة الحديثة وإدارتها، لكنه كان البداية لأن يدرك الناس أن هناك خللا جما يهدد حياتهم ومستقبل أبنائهم يتمثل فى الفساد السياسى وسوء الادارة وانعدام الكفاءة وسيادة العشوائية وانتشار الخرافة ، ورغم انحسار الموجة الأولى للربيع العربى فإن أسبابها ما زالت حاضرة بقوة بل وتتفاقم يوما بعد يوم مع استمرار فشل الانظمة واعتقادها أنها استطاعت إخماد موجات هذا الربيع الى الأبد.
يرى بعضهم أنه كان تعجلا إطلاق مصطلح ثورة على ما حدث فى البلدان العربية فى بدايات 2011 لكن لا يمكن تجاهل أن ما حدث هو إرهاصات حقيقية وقوية بموجة تغيير مؤجلة وعارمة - وقد تأخذ بعض أشكال العنف للأسف - ستفرض نفسها على الجميع لأن القاعدة تقول : طالما وجدت نفس الأسباب كلما أدت لنفس النتائج، بل قد تؤدى لنتائج أكثر شدة.
غياب الإصلاحات وسد منافذ التعبير عن الرأي والاغترار بقوة البطش واستمرار الفساد وتركز السلطة فى يد فئة قليلة تحتكرها رغما عن الناس والاعتماد على اليد الغليظة فى تحقيق الاستقرار الهش، والتضليل الإعلامى والاصرار على الاكاذيب، وسوء توزيع الثروة وتمييز فئة بالمجتمع عن فئات أخرى، وانهيار الخدمات التى تقدمها الدولة مع تحمل الفقراء فاتورة الاصلاح الاقتصادي المزعوم، وغياب العدل الاجتماعى وتفشى اليأس ومشاعر الإحباط الجمعى بنفوس الناس وقتل الأمل كلها أسباب تؤدى لانفجارات غير معلوم توقيتها ولا ماهيتها ولا إمكانية احتواءها من عدمه.
***
كانت هذه الأسباب السابقة بعضا من أسباب الموجة الأولى للربيع العربى، اليوم تستطيع أن تضيف لها أسبابا أخرى استجدت خلال السنوات الماضية واصطبغ بعضها بلون الدم فى بعض البلدان العربية التى شهدت ثورات مضادة استخدمت كل وسائل الانتقام الممكنة مادية ومعنوية لتضمن الاجهاز على الثورات الحقيقية ولتفرض بساط سيطرتها على الأوضاع.
يحلو للبعض أن يطرح سؤالا حول مدى احتمال المنطقة العربية لثورات أو موجات تغيير جديدة فى ظل تعقد المشهد الاقليمى وتصاعد النزاعات المسلحة فى سوريا والعراق واليمن وليبيا مع ربط ما حدث فى هذه الدول من دمار إلى الربيع العربى وكأنه السبب ! لكن الحقيقة أن الطريقة التى تم التعامل بها مع هذه الثورات هو الذى أدى لما نراه من مآس دامية تسبب فيها هؤلاء الحكام الذين قرروا عقاب شعوبهم على مطالبتهم بالحرية أو انتهاج بعضهم لسياسة طائفية بغيضة أو محاولة البعض الاخر الالتفاف على مطالبها وسط تشجيع إقليمي أحيانا ورضا وصمت دولي على الناحية الأخرى.
نسمات الربيع العربى التى عطرت أنفاسنا قبل ذلك قد تتحول إلى لفحات تطال كل من يعتقد إمكانية تحدى الزمن ووقف سنن الكون فى التغيير، المنطقة العربية كلها فى فترة انتقالية قد تستمر شهورا وسنوات لكن النار تحت الرماد والقادم عصي على الإيقاف.