هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
طفل واحد هزّ الضمير الأوروبى، كم طفلا ينبغى أن يموتوا لكى يستيقظ الضمير العربى؟
(1)
صورة ايلان الكردى ابن السنوات الثلاث أطلقت الجرس الذى لايزال رنينه يدوى فى أرجاء الكون. بجسمه الصغير الذى لفظه البحر على شاطئ مدينة بودروم التركية فإن جثته فتحت الأعين على بشاعة الجريمة الكبرى التى ترتكب بحق الشعب السورى منذ أكثر من أربع سنوات. عبقرية الصورة أوصلت للكافة ما لم توصله نشرات الأخبار التى تحدثت عن قتل أكثر من ربع مليون سورى وتشريد ١٢ مليونا، سجلت دفاتر مفوضية اللاجئين منهم أربعة ملايين. أصداء الصدمة تجاوزت ما جرى حين قتل الإسرائيليون الطفل محمد الدرة وهو فى «حضن أبيه عام ٢٠٠٠». ورغم بشاعة الجريمة فإن الآلة الإعلامية للقاتل الإسرائيلى سارعت إلى احتواء الموضوع وامتصاص صداه مستثمرة ضعف ذاكرة العرب ووهن أنظمتهم. وهو ما حدث أيضا بعد إحراق المستوطنين جثة الطفل على دوايشة فى بداية شهر أغسطس من العام الحالى (أمه ماتت هذا الأسبوع متأثرة بالحريق وأبوه سبقها). وشاء القدر أن يحترق الطفل الفلسطينى تحت جنح الظلام فلم تلتقط له صور. ذلك أيضا حظ أطفال اليمن الذين أصبحوا يقتلون كل يوم ويدفنون تحت الانقاض ويتحولون إلى أشلاء وجثث مشوهة من ذلك القبيل الذى اعتادت أعيننا رؤيته فى العراق وغيرها من مناطق الصراعات التى باتت توزع الموت على فضاءات العرب بغير استثناء.
لو أن جثة الطفل كانت على شاطئ غزة لاختلف الأمر، ولما أحدث الصدى الذى روَع الأوروبيين واستنفرهم. وهو ما حدث أثناء إحدى غارات إسرائيل التى شنتها على القطاع فى صيف ٢٠١٤، فقتلت أربعة أطفال وليس طفلا واحدا، كانوا يلعبون على الشاطئ، ولم يتحرك شىء فى العالم الغربى ولا العربى.
(2)
الفزع الأوروبى أدهشنا، نحن الذين الفنا الموت وتكيفنا مع القتل حتى غدت الجنازات طقسا شبه يومى فى عواصمنا، وكان مثيرا للانتباه ان إعلامنا اهتم برد الفعل الأوروبى بأكثر من اهتمامه بالفعل والجريمة الأصلية، فتابع الضحايا ومعاناتهم فى حين نسى القاتل الذى لايزال يمطر الضحايا بالبراميل المتفجرة. وكانت النتيجة أننا شغلنا بالهم الأوروبى بأكثر مما شغلنا بهمنا القومى سواء كان انهيارا كارثيا للنظام العربى أو دما يسيل فى اليمن أو دولة تتحلل فى ليبيا أو وطنا يبتلع فى فلسطين...إلخ.
استغربت عنوانا نشرته إحدى الصحف المصرية على صفحتها الأولى يقول: صورة الطفل السورى الغريق تحرج أوروبا. وشعرت بالخزى حين قرأت أن زعيم المعارضة الإسرائيلية ــ إسحاق هيرتروج ــ دعا حكومة بلاده إلى فتح حدودها أمام اللاجئين السوريين. وانتابنى الشعور بالخجل حين وجدت أن بابا الفاتيكان فرنسيس دعا أديرة أوروبا لفتح أبوابها لاستضافة اللاجئين. وظل الخجل يلاحقنى حين قرأت قائمة النجوم والمشاهير الغربيين الذين أعلنوا تضامنهم مع اللاجئين. من المغنى الفرنسى شارل أزنافور الذى دعا إلى نقل جماعات المضطهدين فى الشرق الأوسط إلى القرى الفرنسية المهجورة، إلى ليونيل ميسى نجم المنتخب الأرجنتينى ونادى برشلونة الذى استهجن المشهد وأعلن دعم مؤسسته الخيرية للمهاجرين، إلى جى كى رولينج مؤلفة روايات هارى بوتر التى رددت دعوة التضامن مع المهاجرين وجون جرين الكاتب والروائى الأمريكى الذى تبرع بعشرين ألف دولار لصندوق إغاثة الطفولة البريطانية لإغاثة اللاجئين وجمع نصف مليون جنيه استرلينى خلال ٢٤ ساعة. وصولا إلى نادى بايرن ميونيخ الذى تبرع بمليون يورور لإقامة منتجعات لايواء اللاجئين واللجنة الدولية الاوليمبية التى تبرعت بمليونى دولار ونادى ريال مدريد الذى تبرع بمليون يورو وغيرهم وغيرهم.
فى هلسنكى عرض رئيس وزراء فنلندا جوها سبيلا منزله الخاص فى شمال بلاده لايواء طالبى اللجوء، ودعا مواطنيه لأن يحذوا حذوه ويفتحوا بيوتهم للباحثين عن مأوى، وفى لندن هوجم رئيس الوزراء ديفيد كاميرون حين صرح بأنه لن يسمح لجحافل اللاجئين بدخول إنجلترا، ووصفت منظمة العفو الدولية كلامه بأنه «مشين»، وقالت صحيفة «الجارديان» موقفه لم يكن خطأ فحسب لكنه بمثابة عار على بريطانيا وكل البريطانيين، وفى هذه الأجواء برز موقف المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التى قادت الدعوة إلى احتضان اللاجئين واتفقت مع النمسا على ان يتفح البلدان حدودهما لاستقبال أعدادهم المتزايدة. كما قادت مع الرئيس الفرنسى هولاند الدعوة إلى وضع خطة للتعامل مع قضية اللاجئين بنزاهة ومسئولية، بحيث يتم توزيعهم على دول الاتحاد الأوروبى وفقا لحصص إلزامية...إلخ.
هذه الأخبار وأمثالها أبرزتها صحفنا التى تعاملت مع الموضوع باعتباره مشكلة أوروبية سببتها جحافل غريبة قادمة من كوكب آخر.
(3)
الأرقام مخيفة وصاعقة. حسب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن أكثر من ٣٠٠ ألف شخص عبروا البحر المتوسط هذا العام وان ما بين ٢٥٠٠ و٣٥٠٠ غرقوا فى البحر قبل ان يصلوا إلى الشاطئ الآخر. عن السوريين المسجلين قالت المفوضية ان العدد الأكبر من لاجئيهم اتجه إلى لبنان ( أكثر من مليون) تليها تركيا (٨٠٠ ألف) ثم الأردن (٣٠٠ ألف) وبعدها العراق (٢٥٠ ألفا) ثم مصر (١٣٢ ألفا). أضاف بيان المفوضية انها وشركاءها طالبوا بتوفير ٥.٥٠ مليار دولار لإغاثتهم، وحتى آخر شهر يونيو تم توفير ربع المبلغ المطلوب. وهو ما يعنى استقطاع الدعم الغذائى للاجئين وصعوبة توفير الخدمات الإنسانية المقدمة إليهم أو إرسال أطفالهم إلى المدارس. أما أحوال اللاجئين فهى تندرج فى مستوى التعاسة التى تبلغ ذروتها فى بعض البلدان وتخف فى بلدان أخرى.
صحيح أن اللاجئين ليسوا كلهم سوريين، ولكن لأن الكارثة الأكبر هناك، فقد أصبحت سوريا المصدر الأكبر للاجئين، إلى جانب أن هناك أعدادا متفاوتة من السودانيين والفلسطينيين والعراقيين وأبناء دول الشمال الأفريقى، وإذا كانت الأغلبية من ضحايا صراعات المنطقة العربية، فإن هناك آخرين من أبناء المنطقة يقصدون دول الشاطئ الأوروبى المقابل بسبب الظروف الاقتصادية الطاردة فى بلدانهم الأصلية.
فى مواجهة زحف اللاجئين نحو أوروبا تحركت المفوضية الأوروبية واقترحت توزيع أعدادهم على الدول الأوروبية، خصوصا ان إيطاليا واليونان المطلتين على البحر الأبيض طالبتا بأن تقاسمهما الدول الأوروبية أعباء اللاجئين، لكن دول الشمال، ما خلا السويد وألمانيا دعت إلى الإبقاء على اللاجئين حيث حطوا رحالهم وان يمنحوا اللجوء هناك، ورفض التشيكيون والسلوفاكيون استقبال اللاجئين. وأمرت حكومة المجر ببناء جدار بارتفاع أربعة أمتار على طول الحدود مع صربيا (١٧٥ كلم) للحيلولة دون دخول اللاجئين إلى أراضيها. وأعلنت بولندا أنها سوف تستقبل فقط المسيحيين دون غيرهم من بين اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط. وقد أشرت إلى أن الحكومة الألمانية كانت أكثر شجاعة حين فتحت مع النمسا حدودهم أمام المهاجرين، ولجأت بون إلى تعليق العمل باتفاقية «دبلن» التى نصت على توحيد إجراءات الهجرة بين الدول الأوروبية، كما نصت على إعادة المهاجرين إلى الدول التى جاءوا منها، إلا أن تفاهمات السياسيين على أهميتها ليست العنصر الوحيد المؤثر فى الموضوع، لأن المشكلة لها أصداؤها التى لا تنكر فى التعامل مع الملف. إذ إلى جانب الأصوات التى تضامنت مع مظلومية اللاجئين فإن الأحزاب اليمينية وجدت المشكلة فرصة وحجة قوية استندت إليها فى تأجيج المشاع وتعبئة الرأى العام ضد ما سمى بالغزاة الجدد حينا ومحاولات أسلمة أوروبا حينا آخر. فى هذا السياق ذكرت التقارير الصحفية أن شعبية السيدة ميركل تراجعت بسبب تعاطفها مع اللاجئين. فى حين هاجم بعض المتطرفين من الشباب الألمانى بعض مراكز تجمع اللاجئين وحاولوا إشعال النيران فيها. وفى الانتخابات الاقليمية والبلدية فى إيطاليا دعت «رابطة الشمال» إلى اعتقال المهاجرين وإعادتهم إلى حيث أتوا. وفى الانتخابات التشريعية فى الدنمارك حاز حزب الشعب ٢١٪ من الأصوات، وتضاعفت نسبته من الأصوات مرتين قياسا على انتخابات عام ٢٠١٠، خصوصا أنه دعا إلى تشديد قوانين الهجرة للحد منها، وتتحدث التقارير الصحفية عن صعود محتمل للتيارات السياسية والشعبوية فى كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، بعدما تعالت الأصوات المحذرة من إرهاب الوافدين وأسلمة القارة وتهديدات الوحدة الأوروبية.
(4)
الغائب الأكبر عن المشهد هو العالم العربى والراسب الأكبر فى الاختبار هو الجامعة العربية التى غدت نموذجا يجسد انهيار النظام العربى وإفلاسه. ذلك أننا إذا اعتبرنا أن أزمات المنطقة حاضرة فى قلب ملف المهاجرين، فسوف يلفت انظارنا أن الأمم المتحدة التى حاول حل تلك الأزمات، وان الجامعة العربية خارج الصورة تماما. فمبعوثو الأمين العام هم الذين يحاولون التوسط فى البحث فى حلول فى سوريا وليبيا واليمن. وقبل ذلك نفض النظام العربى يده من القضية الفلسطينية وترك ملفها للجهود الدولية ومفاوضات القاتل مع القتيل. وهو ما اعطى انطباعا قويا بأن مستقبل العالم العربى أصبح خارج اهتمامات الجامعة العربية أو حتى الحكومات العربية.
الذى لا يقل إدهاشا عما سبق أن المجتمع المدنى العربى والنخبة بمختلف توجهاتها كانوا ضمن الغائبين. وحين نشرت صحفنا أسماء المشاهير الذين أعربوا عن تضامنهم أو أسهموا بتبرعاتهم الرمزية لصالح إغاثة اللاجئين، فإننا لم نجد بينهم اسما عربيا واحدا. استثنى من ذلك النادى الأهلى المصرى الذى وافق على إقامة مباراة فى كرة القدم مع نادى بايرن ميونيخ يخصص عائدها لصالح اللاجئين، وكذلك دعوة لاعب الأهلى وليد سليمان إلى التضامن معهم وتبرعه بمبلغ ٥٠ ألف جنيه لافتتاح الحملة، وإعلان رجل الأعمال نجيب ساويرس عن رغبته فى شراء جزيرة فى البحر الأبيض لإسكان اللاجئين فيها. ولم يعرف ما إذا كان المشروع استثماريا أم إنسانيا.
كان لدول الخليج نصيبها من العتاب على الغياب. فاستعاد البعض موقف تلك الدول حين فتحت أبوابها لاستقبال الكويتيين الذين هاجروا من ديارهم أثناء الغزو العراقى لبلادهم عام ١٩٩٠ أثناء حكم صدام حسين. وكتب المعلق البريطانى الشهير روبرت فيسك مقالة نشرتها صحيفة «الإندبندنت» فى ٤/٩ ألقى فيه السؤال التالى: لماذا يأتى العرب إلى بلاد «الكفار» طلبا للنجاة بدلا من الاتجاه إلى دول الخليج؟ ــ فى الرد على السؤال تراوحت الإجابات بين مؤيدين له، ومذكرين بأن الخليج لم يقصر فى دعم مجتمعات الصراعات التى خرج منها اللاجئون، بحيث لا يستطيع أحد أن يزايد على دولة فى الدور الذى تقدم به فى مساندة الاشقاء العرب. وإذ أزعم أن السؤال له وجاهته وأن دول الخليج كان بوسعها ان تغطى النقص الفادح فى الموارد المالية اللازمة لإغاثة اللاجئين، إلا أننى أعتبر أن المشكلة عربية بأكثر منها خليجية. أعنى أنه حين تغيب دول الصف الأول «الكبرى» وتنكفئ على ذاتها مستغرقة فى صراعاتها الداخلية، وحين لا نرى للجامعة العربية أثرا أو وجودا من أى نوع فى مختلف قضايا المصير العربى، فإننا لا نستطيع أن نخص باللوم دول الخليج دون غيرها.
لا مفر من الاعتراف بأن أزمة اللاجئين جاءت كاشفة لحقيقة الموقف العربى، وفاضحة لكل ادعاءات التضامن والعمل المشترك، الذى يتمسح به البعض هذه الأيام، وإذا جاز لى أن استخدم الشعار المرفوع فى لبنان الذى يعبر عن إدانة القائمين على الأمر فى بيروت واليأس من ممارساتهم، فلعلى أقول إن «الريحة» التى طلعت ليست لبنانية فحسب، لكنها عربية أيضا وبامتياز.